رجلان يُرْبكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما: رجل لا يستطيع أن يجد ما يقوله فيه، ورجل لا يستطيع أن يَختصر ما يعرفه عنه. ووصْف (الأول) بالرجولة تساهل في التعبير، وإطلاق لفظ الرجل على (الآخر) قصور في اللغة؛ فإن من المسلَّمات في تاريخ الإنسان أن من أفراده من يعلمون حتى يكونوا خيراً من الملائكة، ومنهم من يسفلون حتى يكونوا شراً من البهائم. أولئك هم أصحاب الرسالات فحياتهم للناس، وهؤلاء هم أصحاب الشهوات فحياتهم لأنفسهم. ولا مراء في أن الرجل الذي فقدته مصر في هذه الأيام السود كان من البابة الأولى في الرجولة: تجلت في خلائقه مزايا الإنسان الرفيع فاتفق على نبله الصديق الحميم والعدو الكاشح؛ وتمثلت في أفعاله خلال الشريف الحر فاعترف بفضله الوطني النزيه والأجنبي المنصف؛ وعاش محمد محمود عمراً ثم مات، كما اشتعل القبس حيناً ثم انطفأ، فقال قوم هو النور والإشراق، وقال آخرون بل هو النار والإحراق؛ وما أرسل الله من قبلُ حكيماً ولا زعيماً إلا آمن به بعض وكفر به بعض. وليس الإيمانُ بالدعوة دليلاً على الصدق، ولا الكفران بها دليلاً على الكذب.
لا يَعني (الرسالة) من تاريخ صاحب الهوى الرفيع والنفس الكبيرة
محمد محمود إلا دينه وخلقه وأدبه؛ وهو في هذه الثلاثة بإجماع الكلمة
كان مضرب المثل وموضع القدوة. فدينه دين المعتقد عن علم، وخلقه
خلق التقي عن عقيدة، وأدبه أدب السرى عن أصالة. وما اجتمعت هذه
الصفات في زعيم حكيم إلا كانت ضماناً لحسن نيته وأماناً من سوء
عمله.
أما السياسة فلا تزال في الشرق العربي كله أثراً للعوامل الأجنبية، فلا تتأثر برأي حزب ولا تتغير بإرادة حكومة. فمن الخطل أن ندخلها في أسباب الحكم على زعيم أو حاكم ما دام يتأثر بها ولا يؤثر فيها. وإذا اعتبرنا السياسة على هذا الوجه السلبي وشهوة من شهوات النفس الطموح تصل من طريقها إلى المال أو الجاه أو الحكم، فقد أبى لزعيم الأحرار الدستوريين نبل فطرته وكرم أسرته أن يجعل أي عَرضِ من هذه الأعراض الدنيا غاية