للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الأزهر بين الجامع والجامعة]

للأديب صبحي إبراهيم الصالح

أقبل منذ نعومة أظفاره على الدين مولعاً بدراسته شغوفاً بأسراره شديد الرغبة في بثه وإحيائه؛ حتى إذا نال الشهادة الثانوية في موطنه لبنان قدم القاهرة فانتسب إلى إحدى كليات الأزهر وإن في صدره لآمالاً كباراً، وأحلاماً عذاباً.

لم تكن آماله لنفسه فقد وهب للدين نفسه، ولا أحلامه في شخصه؛ وإنما كان كل رجائه ماثلاً في الأزهر الشريف يرقب وثبته الداعية إلى الإصلاح، وتطوره الباعث على التحرر.

أسرف في حسن ظنه بالأزهر: فما لبثت الأحداث أن صعدت الباب، لتظهره على المستور من وراء حجاب!

واقتصد في حسن ظنه وأصبح ضنيناً في مدحه حين رأى الأزهر على حقيقته. . . فاحترق من الألم فؤاده، وتقطع من الألم قلبه، وفاض من التحسر دمعه.

أخذ يستعرض في مخيلته صوراً للأزهر قد خلت فوجده - منذ بنائه إلى عهد قريب - غير مقصور على العبادة في خشية وخشوع، ولا على الصلاة في تذلل وخضوع، وغير مقصور على علوم الشريعة في تمحيص وتدقيق، ولا على آداب اللغة في تبويب وتنسيق. وإنما كان نسيجاً من ذاك وهذه، وكان النسيج من قوة الحبك ووثوق العرى بحيث استعصى على الحوادث حله مدى عشرة قرون حمل فيها الأزهر مشعل الحضارة بيده، وبدا للعالم كله مثالاً حياً للجامعة المقدسة الوقورة، ونفر إليه الوافدون يتلقون في حلقاته علوماً يزينها الإيمان، ومعارف يجملها الإخلاص، وآداباً يصقلها الخلق المتين.

لقد كان الشرق عزيزاً بالإسلام، يوم كان الغرب منزوياً في الظلام. . . ثم سكر الشرق سكرة أضاعت رشاده، فوثب الغرب وثبة بعثت جهاده!

وغلب الشرق على أمره فقلد الغرب في حضارته، وتأثر به في مدنيته، وانتقل بين عشية وضحاها من عهد مؤمن بالدين القويم، مخلص لرسالته السامية، خاضع لتشريعه الحكيم، مذعن لأحكامه العادلة، إلى عهد متفان في المادة الطاغية، غارق في بحرها المتلاطم مسحور بمتاعها الكاذب، مأخوذ بجمالها الخلاب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>