من مبلغ عني تلاميذ علم الإسكندري ومحبي شعر الجارم بمصر أني ظفرت بما لم يظفروا به وشهدت ما لم يشهدوا. . .؟ شهدت شيخ الأدب العباسي أستاذنا الجليل ومؤدب الجيل الشيخ أحمد الإسكندري الممتلئ بدنيا بغداد - يدب على أديم بغداد (ملتقى العواصم) ويناقل الخطو على مواقع أقدام الجاحظ. . . وعلى فمه ابتسامة عريضة شفافة أعرف معناها معرفة التلميذ معاني أستاذه. هي ابتسامة للأرواح والأطياف التي تطفر من رأسه الكبير لتعيش في جوها وملاعب وجودها الأول. . . أو هي ابتسامة الحاج إلى كعبة فكره ومعالم أنسه الروحي
ويشهد الأدب أني حين أدرس (العصر العباسي) في كلية دار العلوم بالأعظمية أو المدرسة المتوسطة الغربية، أستحضر صورة مجلسه في دار العلوم بمصر وإيمانه بهذا العصر وامتلاءه من علومه وآدابه وأخباره؛ ويشاء الله أن أراه في بغداد لأحظى بالصورة الكاملة للعالم والمعلوم
ومن مبلغهم أخرى أني رأيت للمرة الثانية قلب شاعرنا الموسيقي الممثل علي بك الجارم يرقص على الأجواء التي رقص عليها قلب النواسي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام. . . في الضوء الذي بنوا منه أبياتهم الخالدة. . . ويسكب في أسماع أحفاد بابل سحر بابل. . . من الخمر التي عتقت ألفاً في دنانٍ من الأذهان. حادرة من إبريق إلى إبريق حتى رأيناها شيقةً ريقةً مترقرقة في فيه. . . ويهمس في أذن دجلة الراقدة، بصدى الأصوات البعيدة التي رفت عليها أيام أن كانت حدائق وبلابل وظلال وبنود، ومعسكر جنود، وسوامر إنشاد، وملتقى كل واد. . . وفي عينيه بريق وتحديق إلى السماء التي أوحت بكواكب الأشعار إلى مفرغي قلوبهم في قلبه، وباسطي اجتحتهم على خياله. . .؟!
إني رأيت ذلك كله. . . وكان لابد لي منه. . . كان لابد من الإسكندري في دار العلوم