بقى الكلام في الصفة الأخيرة من صفات الأسلوب الجامعة وهي: التلاؤم أو الموسيقية أو (الهرمونية). وإذا بلغنا هذه الصفحة من قضية البلاغة، فقد بلغنا موضع التهمة التي تريب المتهِم، وتعتسف الدليل، وتنكر الذوق، وتنزل القيم الفنية منزلة العبث. تلك هي تهمة اللفظ بالأناقة، والتركيب بالموسيقى، والأسلوب بالرفعة. ولو كانت هذه التهمة الجريئة تقصد المجال المزيف والحسن المجتلب لما حكَّ في الصدور من ناحيتها شئ؛ ولكنها تقصد التعبير الجميل الذي يتميز به كلام الأديب عن كلام الناس، وصوت المغني عن صوت الحمار، ورسم المصور عن تناشير الطفل. والزراية على الجمال اللفظي بهذا التعميم وهذا الإطلاق بدعة من بدع هذا العصر الذي اعتلت به الأذواق واختلت فيه المقاييس. وليس لأكثر البدع مسوغ من الفطر السليمة والفكر الصالحة. إنما هي نزوات في بعض الرءوس، أو نزعات في بعض النفوس، تصدر عن شذوذ في الفكر أو حَثَر في الذوق أو عجز عن الكمال. وإلا فكيف تعلل إنكارهم تجميل الأسلوب وهم لا يفتأون كسائر الناس يطلبون الجمال في شتى ضروبه ومختلف صوره؛ لماذا يثورون على تنميق الكلام بدعوى أن الغرض منه الفهم والعلم، ولا يثورون على تزيين الطعام وتحلية الهندام وتزويق المسكن، والغرض الأصيل منها الغذاء والوقاء؟ لم لا يقفون موقف الحيوان عند حدود الضرورة من مآرب العيش ومطالب الجسد، فلا يتفننوا في تلاؤم الأجزاء في اللباس المهندم، ولا يتأنقوا في تنضيد الألوان على الخوان الموشى، ولا يتنافسوا في تنجيد الأثاث للبيت المزخرف؟ وإذا كان أحدهم لا يحب أن يلبس الثوب المرقع، ولا أن يسكن الكوخ النابي، ولا أن يتزوج المرأة المسيخة، ولا أن يسلك الطريق الوعر، ولا أن يركب المركب الخشن، فلماذا يكره أن يسمع الكلمات العذبة والفِقر المتسقة والجمل الموزونة والأصوات المؤتلفة، والنظر والسمع في هذا المقام سواء (فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب) (وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضاده ويخالفه. والعين تألف الحسن وتقذى بالقبيح؛ والأنف يرتاح للطيب وينفر للمنتن؛ والفم يتلذذ بالحلو ويمج المر؛ والسمع يتشوف للصوت الرائع وينزوي عن الجهير الهائل؛ واليد تنعم باللين