أخذت الحضارة تصلح على ضفاف النيل وواديه منذ أن بدأ الإنسان يشتغل بالزراعة وبدأت حياة الاستقرار وإنشاء الحكومات، وحيث أن المصريين - كما يقول هيرودوت - هم أقدم أمة متمدينة على الأرض فقد أخذت حضارتهم تنبث إذن على ضفاف الوادي متجهة مع الماء نحو الجنوب، تاركة فيه رواسب متباينة من هذه المدنية القديمة، وعلى هذا الأساس فقد بذرت البذور الأولى من قصة هذه الروح، ثم أن هذه الصلة قد تكونت عن صدق وإخلاص لأن السودانيين كانوا يدينون بالدين المصري القديم ويتكلمون اللغة المصرية.
يرى المحدثون من الباحثين أن معالم الحضارة المصرية القديمة والثقافة العربية قد تسربتا إلى السودان الشمالي عن طريق مصر، وقد استطاع هذا الإقليم أن ينتج في وقت ما حضارة شبه مصرية من حيث طابعها ومظهرها، ومنه خرج الغزاة اللذين أسسوا إحدى الأسر الفرعونية كما أنه أقرب من حيث ثقافته وحالته البشرية العامة إلى مصر من إقليم النوبة الشمالية نفسه مما يرجح الأخذ بان قصة هذه الروح تقوم على دعائم ثابتة وعلى أركان وطيدة راسخة تمد الروح من جهادها العبقري للتخلص من وبقة الاستعمار.
فالروح في الشمال لم تستكن يا صاح - في تاريخها الطويل - للغزاة الفاتحين؛ فإذا نظرنا إلى غزاة مصر من الإغريق والرومان فأنا نجد أنهم لم يفلحوا في فرض طابعهم على الحياة المصرية ذلك لأن هنالك قوة حيوية كامنة في نفوس المصريين تستحثهم الدوام وتوجههم للثورة على الغالبين، فغدوا هم غالبين منتصرين، مسيطرين على المجرى الطبيعي لوادي النيل؛ ومن هنا ندرك أن الروح المؤمنة الشاعرة تنتصر على الدوام لأن رسالتها تنبعث من قوى الإيمان الصادق.
وإذا انتقلنا مع الزمان نقلة سريعة باحثين عن الأثر الذي تركته الحياة العربية في جنوب الوادي فإننا نلمح تجاوباً سريعاً في حياة الروح في الشمال والجنوب، ذلك لأن الآلام واحدة والآمال واحدة كذلك، ومرجع ذلك ومرده إلى وحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد، لأن