حياة الأمم - كما نعلم - لا تتكون إلا عن طريق هذه النظم الإجماعية الكبرى التي تعبر تعبيراً صادقاً عن التطور الطبيعي المرموق، وعلى هذا فالإيمان الذي يدعوا إليه أبناء الشمال عن الجلاء ووحدة الوادي يجد سبيله النافذ إلى أبناء الجنوب فهم يستمسكون به ويدافعون عنه ويضحون في سبيله بأغلى ما يملكون. فالروحان المتعانقان في الشمال وفي الجنوب يؤمنان ويجاهدان ويعملان. . .
ولكن ما هي العناصر التي تمد هذه الروح وتذكيها، وما هي الآثار التي يخلفها هذا الإيمان، وما هو المدى الذي تتطلع إليه هذه الروح في غدها القريب السعيد؟ كل هذه النتائج يتلمسها المتتبعون لسير الحوادث في جنوب الوادي في هذه الآونة الأخيرة؛ ذلك أن حركة وادي النيل قد أخذت تظهر منذ أن هب المخلصون من السودانيين تلك الهبة المعروفة والتي تمخضت عن حوادث سنة ١٩٢٤ الدامية إذ قتل فيها من قتل وشرد فيها من شرد، فكانت تلك الحركة إذن وقوداً يذكي لروح الشعبية في جنوب الوادي، وقد وجدت تلك الحركة صداها في نفوس الشعراء من شباب ذلك الحين فانبعثت الألحان الثائرة من عبد الله بن عبد الرحمن، ومدثر البوشي، وعبد الله البنا، وصالح عبد القادر. فكانت الشرارة الأولى للروح الثائرة المؤمنة. . .
وإذا نظرنا إلى قصة الروح في الشمال فإنا نجد أن الحملة الفرنسية قد كان لها دور بعيد في تأريخ هذه الروح، إذ كان الفرنسيون أول أمة غربية هبطت مصر في تأريخها الحديث واستولت عليها، وبهذا فقد اتجهت أنظار الدول الأوربية إلى مصر وغدا لها في تاريخ الروح الأوربية طور جديد؛ أضف إلى هذا أن إنكلترا قد أخذت تهتم بمصر اهتماماً عظيما وذلك لمركزها الجغرافي المرموق، وأخذت تعمل - بالتالي - للحيلولة دون وقوع مصر في يد دولة غربية أخرى، ومن هنا تلعب قصة الروح دورها الذي انفردت به من بعد على مدى التاريخ؛ ومن هنا ظهرت لجنوب الوادي مكانته في نظر السياسة الإنجليزية كما هو معروف.
ومن البداهة أن يلاقي العباقرة من العظماء والمجاهدين والفنانين الآلام المبرحة في سبيل الوصول إلى القمة في حياة الروح، ذلك لأن التخلص من طبيعة الأرض يمسك بهم من الانفلات والصعود فيجاهدون ويجاهدون، ومن البداهة كذلك أن تلاقي الأمم هذه الآلام في