ذكرنا في العدد ٤١٨ من هذه المجلة الغراء أن الوضع الصحيح للإصلاح الاجتماعي في مصر يقتضينا ألا ننظر إلى الفقر كمشكلة قائمة بذاتها؛ لأنه - كما قلنا - نتيجة لمشاكل أخرى كثيرة. وعلى ذلك يجب علينا أن نبين مدى مساهمة تلك المشاكل في خلقه ومضاعفة آثاره المحزنة. وهي كلها مشكلات اجتماعية خطيرة ملحة. واستمرار وجودها واستفحالها يجعلها تتفاعل بعضها مع بعض، وتنتج عصير الشقاء الذي تتجرع كأسه الأغلبية الساحقة من سكان هذه البلاد.
والذين يتحدثون عن (الفقر) وحده مخطئون كل الخطأ، إذ لا يحلمون إلا بإعادة توزيع الأراضي على جميع أفراد الشعب على السواء وملء جيوب الفقراء بالمال. وهو أمر مستحيل وضار من الوجهة الاجتماعية ومناقض للبداهة السليمة والقوانين السماوية كلها ومنافٍ لمنطق الأشياء. فلو تحول الشعب يوماً ما إلى أغنياء بمثل هذه الطريقة لاضطرب المجتمع من جديد بعنف لتعيد الطبيعة توازنها الفطري، وعاد معظم الفقراء إلى ما هو أشد وأنكى من فقرهم الأول. فللطبيعة قوانين خفية تسري من تلقاء نفسها وتحطم كل ما يقف في سبيلها. والفقر ظاهرة طبيعية، ولكنه عندما يتجاوز حده يصبح ظاهرة اقتصادية اجتماعية.
وإذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن صلة الحالة الاقتصادية بالفقر، فلنحاول اليوم أن نرسم صورة سريعة للصلة الوثيقة بين مشكلتي الجهل والفقر.
مشكلة الجهل في مصر
كثير من الناس ما زالوا يخلطون بين الجهل والأمية، ولا يفرقون بينهما. فالأمية ضد التعليم بمعناه الضيق. أما الجهل فهو عكس الثقافة التي تستلزمها الحضارة والتربية العامة للشعب. وهي أوسع معنى من التعليم وأشد لزوماً منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة، ولكنه كان مثقفاً، نير الفكر، واسع الإدراك، ولهذا تمكن من