في صباح يوم الجمعة الماضي أمسكت يدان صغيرتان بجريدة الأهرام، واندفع صاحب اليدين الصغيرتين نحوي وهو يهتف في دهشة: أبي. . أنظر يا أبي. . . أليس هذا هو علي طه؟ هل مات حقا يا أبي؟! وراحت عينا الصغير تحدقان في الصورة المجللة بالسواد ثم ترتدان إلىفي لهفة المنتظر الذي يريد من فمي جوابا. . . يكذب ما رأته عيناه! ونظرت إلىالفتى الصغير الذي يحلني من نفسه محل أبيه وأجبت: نعم يا بني. . . لقد مات. . . ترى ألا تزال تذكره يا صغيري؟ وقال الصغير وقد غلبه الأسى على أمره: كيف لا أذكره يا أبي؟ ألم أذهب معكما ذات مساء إلى (الأهرام) أنت وتوفيق الحكيم، وهناك في مكتب الصاوي رأيناه؟ أليس هو الذي ضمني إلىصدره، وقبلني، وقال لي: إذا كبرت يا بني فكن أديبا من طراز عمك؟ أليس هو يا أبي. . . صاحب هذا الصورة؟! وقلت للصغير دون أن أنظر إليه حتى لا تقع عيناي على الصورة التي بين يديه: بلى يا بني إنه هو. . . ذلك الإنسان!
ومضيت أرتدي ملابسي، إلىأين يا أبي؟ إلىهناك يا بني. . . إلىحيث أودع الصديق الحبيب الذي ضمك يوما إلىصدره، وقبلك، وأوصاك أن تكون أديبا. . . ألا تأخذني معك يا أبي؟ يعز عليّ ألا آخذك يا بني، أبق هنا حتى أعود إليك. . . بدموعي!
وبعد دقائق كنت هناك. . . كنت في ذلك المكان الذي قدر لي فيه أن أرى علي طه محمولا على الأعناق! وسرت وراء نعشه، سرت في زحمة المشيعين بجسمي، أما فكري. . . فقد كان مع الماضي القريب، كان ينتزع الذكريات الغالية من قبضة الزمن!
في أول عدد من الرسالة كتبت فيه (التعقيبات) حملت سلاحي، وهو قلمي، ودافعت عن الشاعر الذي لا أعرفه: علي محمود طه. . . وفي هذا العدد من الرسالة ألقي سلاحي، وهو قلمي، لأنني لا أستطيع أن أدافع عن الشاعر الذي عرفته: علي محمود طه. . . لقد كنت بالأمس قادراً على أن أدفع عنه هجوم الناس، أما اليوم فليس بوسعي أن أدفع عنه هجوم القدر، ولا أن أرد عوادي القضاء!