(أغارت سيول هائلة ليلتي ٢٤ - ٢٥ أكتوبر على حارستا والمعظمية والضمير من أكبر قرى دمشق الشمالية، فخربتها ولم تدع في الضمير حجراً على حجر، وقتلت الناس بالمئات وتركت من تركت بلا مأوى ولا مال. . .)
كانت (منطرة)(سعد الخطار) أعلى منطرة في (دوما)، وكانت تطل على كروم دوما الواسعة والسهول التي تليها ممتدة إلى ثنيّة العقاب التي انحدر منها خالد مَقْدَمه من العراق في طريقه إلى اليرموك ساحة الشرف الخالد، وتشرف من هناك على جنان الغوطة تلوح من ورائها دمشق جنة الأرض أقدم مدن العالم، يرى خيالها حيال الأفق بمآذنها التي لا يحصيها عدّ، ومسجدها العظيم تتوّج هامته قبة النسر الباذخة المشمخرة، والمنائر السامقة العالية، ويرى منها قاسيون الحبيب، وهاتيك الجبال. . . وكان سعد الخطار سيد شباب الضمير، وأشدهم أسراً، وأجرأهم جناناً، وأقواهم ساعداً. اشتغل منذ عشر سنين ناطوراً في كروم دوما، فعرف فيها بالشدة والبأس، فتجنب الناس كرْمه وابتعد عنه اللصوص والطرّاء. وكان يجول المساء في أنحاء الكرم أو ينزل إلى البلد، وخيزرانه في يده، فيجتمع النساء في طريقه ينظرن بإعجاب إلى قامته المديدة، وصدره الواسع، وأكتافه العريضة، وشاربيه الأسودين المعقوفين؛ ولكن سعداً كان مع هذه الشدة وهذا البطش رقيق العاطفة، مرهف الحس، يحمل بين جوانحه قلب شاعر شاعر. . .
كان عصر اليوم الخامس والعشرين من أكتوبر سنة ١٩٣٧ وكانت السماء متلبدة بالغيوم، والأمطار ترش رشاً خفيفاً، والدنيا مظلمة ترى كأنها في ساعة الغروب، وكان سعد في منطرته ينظر إلى الكرم الواسع الذي حرسه الصيف كله، وكان موقَرا بالثمر تبدو عناقيده الحمر والبيض من خلال الورق الأخضر كأنها عقود اللؤلؤ والياقوت، يمتد إلى حيث لا يدرك البصر حافلا بالحياة، فرآه قد اصفرت أوراقه وعطل من الثمر وعاجله الخريف فذوت أوراقه واسّاقطت تطير مع الريح؛ ورأى أشجار المشمش التي كان يبصرها دائماً عن يمين الكرم خضراء زاهية، قد تجردت ولم يبق عليها إلا أوراق صفراء جافة؛ ثم هبت رياح باردة من رياح الخريف فلفحت وجه سعد، وحملت هذه الأوراق الذاوية فألقتها