وقفنا خاشعين صامتين مطرقين، وأنصتنا إلى الكاهن يتكلم في وناء وتؤدة ووقار: يقص علينا من التاريخ قصصا. وما كنا نفهم من يونانيته ونحن مصريون شيئا، ولكن ظلمة المكان، ورهبة المعبد، وخشوع السامعين من أهل اليونان، وصوت الكاهن يرن تحت هذه القبة العتيقة، كل ذلك قد استولى علينا فأنصتنا كالسامعين وأطرقنا كالفاهمين، وتتبعنا حديثه كما لو كان يتكلم بلسان عربي مبين
وانتهى الكاهن من قصصه وصافحناه، وشكرنا له فضله وخرجنا وعلى وجوه اليونانيين بما سمعوا من الكاهن آثار مقروءة من السرور والألم، والرضا والسخط، والفخار والحسرة، مجتمع بعضها إلى بعض
قلت لصاحبي اليوناني المتمصر:(عجل فأنني جدا مشتاق إلى فهم حديث الكاهن، وما أحسبه إلا لذيذا ممتعا) قال: (إنه حقا لذيذ ممتع، وسأقصه عليك كما سمعته من فمه. (وسكت برهة كأنما يستجمع ذكريات، ثم قال: (أنظر إلى هذه الشجرة العتيقة القائمة في فناء الدير!) فنظرت إليها وقلت: (ليست إلا شجرة عتيقة قائمة في فناء الدير!) قال: إنها صفحة من صفحات التاريخ قرأها لنا الكاهن، وقرأ لنا صفحات أخرى منها دير آخر يسمى ميفاسبليون ممرنا عليه في طريقنا من أثينا إلى دير أجيالافرا الذي نحن فيه. ولا تنس قبل أن أقص عليك الحديث أننا على قمة جبل رفع هامته في الفضاء ألف متر، ثم استقر ثم اكتسى رداء أخضر من شجر الصنوبر، وطاول به جبال سويسرا وازدهى به من بين بقاع العالم التي خلعت عليها الطبيعة جمالها. واعلم أن هذا المكان. . .) قلت:(يا صاحبي! حنانيك لا تطل علي ولا تباعد بيني وبين الحديث فما طلبت وصف ما رأيت وما رأيت، وأنا وأنت مهما حاولنا وصف المكان فلن نجعل له من ألفاظنا صورة تصلح لأن تدنو من حقيقته، وحسبي وحسبك أننا متفقان على أن الله قد خلق هذا المكان فيما خلق فأبدع خلقه، وصوره فيما صور فأحسن تصويره، وجعل في الناس صدق النظر وحسن التمييز فتراموا عليه من كل حدب وصوب ينعمون بجماله ويسبحون بحمد خالقه) قال: (ولكنك لا تفهم