كان يجلس في الفصل ساكناً ساكتاً، لا يسأل ولا يُسأل، ولا يشترك في نقاش جل أو هان، فإذا نزل إلى فناء المدرسة انزوي في مكان قصي، ونشر صحيفته، وأخذ يقرأ قراءة المنهوم، حتى إذا عاد إلى فصله مرة أخرى جر نفسه في تباطؤ وانكسار. وكان من يراه يظنه من المتفوقين الذين حبسوا أنفسهم على الدرس واستيعاب العلوم، وكان نجاحه على وتيرة واحدة لا ينقضها ولا يخالفها، فقلما نجح من الدور الأول. وكان إذا أراد أداء امتحان الدور الثاني أوحى إلى أبيه في القرية أنه في حاجة إلى السفر إلى المدينة. وأبوه - والحق يقال - لا يعرف من أمره شيئا، ولا يسأل عن نتيجته. وكان سلوكه يطمئن والده، فالثقة فيه متوافرة، والاعتماد على عقله الحصين ماثل، فليس ثمة داع إلى الريبة والظن. وماذا يرجو والده منه؟ هو ناجح، وينتقل من فرقة إلى أُخرى، وها هو ذا في السنة الثالثة الثانوي، لم يرى أحد منه رسوباً ولا تقصيراً.
لكنه على حين غفلةأصبح زعيم الطلبة. أما كيف سار إلى هذا المركز فهذا ما يحتاج إلى حديث. لقد جاءه الوحي بالزعامة، والمدرس يشرح الدرس، وما من شك في إنه لم يسمع كلمة، ولم يرى أحد ممن حوله فقد كان في شغل شاغل، طوح به بعيد عن المدرسة والدراسة، فلما دق الجرس، وطار الطلبة إلى الفناء تخلف عنهم قليلاً، ولما تأكد من خلو الفصول من طلابها صاح بأعلى صوته: ليسقط الاستعمار! ليسقط (صمويل هور)! ونظر الطلبة إليه وسمعوه يردد الهتاف مرة ومرة، فهرعوا إليه يرددون نداءه ثم خطب خطبته المشهورة - كما يقال في الزمن القديم - ودعاهم إلى الثورة، وترك العلم، وقفز إلى خارج المدرسة، وهتافه لا ينقطع ولا يفتر، اندفع وراءه جمهور الطلاب، وسارت المظاهرة تجوب شوارع أسيوط، وتعرج من حين إلى حين على مدرسة في طريقها، فتخرج طلابها. وهكذا تضخمت المظاهرة، وشق هتافها عنان السماء - كما تقول الصحف - وكان الناس