للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٦ - دعابة الجاحظ]

للأديب محمد فهمي عبد اللطيف

. . . وإني لأعجب للجاحظ كيف اتسع وقته واتسع قلبه لكل هذا الضحك والإضحاك من الناس، فكأنه كان رقيباً يرقبهم في كل ناحية من نواحي نقصهم، ليعود من وراء ذلك بالنادرة الطيبة، ويفوز بالفكاهة الضاحكة، وينثني بالملحة البارعة، فهو يتسقط جهد طاقته - حيلة المتطفل، وحجة البخيل، ونحلة الأكول، وخفة الأبله، وسخافة الغبي، وغباوة الأحمق، ووقاحة الدعي، وتقعر المتعالم، وعنجهية الأعرابي، وملحة الأديب، وظرف النديم، فإذا ما أجرى ذلك وأشباهه على لسانه، أو تناوله بقلمه، وأخرجه على طريقته، وطبعه بأسلوبه، وافرغ عليه من روحه وقلبه، فإنه لا شك يستولي على لبك، ويهيج نشاطك، ويدفعك إلى الضحك دفعاً، وينتقل بك إلى روضة أريضة بالبشر والطلاقة، والشواهد لذلك كثيرة في كتب الرجل وفيما تلقفه عنه الأدباء وأهل الرواية. حدث فيما حدث به عن بخل محمد بن أبي المؤمل وشدة حرصه وإقتاره فقال: واشترى - أي ابن أبي المؤمل - مرة شبوطة وهو ببغداد، وأخذها فائقة عظيمة وغالى بها وارتفع في ثمنها، وكان قد بعد عهده بأكل السمك وهو بصري لا يصبر عنه، فكان قد أكبر أمر هذه السمكة لكثرة ثمنها ولسمنها وعظمها، ولشدة شهوته لها، فحين ظن عند نفسه أنه قد خلا بها، وتفرد بأطايبها، وحسر عن ذراعيه، وصمد صمدها، هجمت عليه ومعي السدري، فلما رآه رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف، ورأى الحتم المقضي، ورأى قاصمة الظهر وأيقن بالشر، وعلم أنه قد ابتلى بالتنين، فلم يلبثه السدري حتى فور السرة بالمبال، فأقبل علي فقال لي يا أبا عثمان: السدري يعجبه السدر! فما فصلت الكلمة من فيه حتى قبض على القفا فاتنزع الجانبين جميعاً، فأقبل علي فقال: والسدري يعجبه الأقفاء، فما فرغ من كلامه إلا والسدري قد اجترف المتن كله! فقال يا أبا عثمان: والسدري يعجبه المتون ولم يظن أن السدري يعرف فضيلة ذنب الشبوط وعذوبة لحمه وظن أنه سيسلم له، وظن معرفة ذلك من الغامض، فلم ير إلا والسدري قد اكتسح ما على الوجهين جميعاً!! ولولا أن السدري أبطره وأثقله وأكمده وملأ صدره غيظاً لقد كان أدرك معه طرفاً لأنه كان من الأكلة، ولكن الغيظ كان من أعوان السدري عليه، فلما أكل السدري جيع أطايبها وبقي هو في النظارة، ولم يبق

<<  <  ج:
ص:  >  >>