عرفت صديقي الأستاذ الجليل محمود رزق سليم - أول ما عرفته - شاعرا مطبوعا، ينظم القصائد العامرة في شتى لا الأغراض الوطنية والاجتماعية والعاطفية، ولقد قرأت له منذ أمد بعيد ديوانه (رحى الربيع) فأعجبت بديباجته المشرقة وتفكيره المستقيم، وعاطفته الدافقة الجياشة.
وعرفته - ثانيا - أديبا منصفاً يسوق آراءه الناضجة، معتزة بأدلتها المقنعة، وبراهينها الدامغة، وذلك حين قرأت له منذ سنوات، مصنفة، القيم عن الأدب الفاطمي وما يليه، فراقني منه إيجازه البليغ، وتحليله الدقيق، ونماذجه الجيدة، المختارة من حر القول، وماثور البيان مما يدل على ذوق محمود، وطبع سليم.
وهاأنذا أعرفه - للمرة الثالثة - مؤرخا دقيقا يكتب عن حقبة مظلمة من التاريخ المصري، فيكشف القناع في براعة، ويميط اللئام في اقناع، فلقد قرأت كتابه الأخير (عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي) فخرجت منه بذخيرة ثمينة من الحقائق التاريخية، كانت مخبوءة عن الناس، مستورة في غواش حالكة من الإبهام، حتى جاء المؤلف فاستنطق المخطوطات العتيقة وقرا المطبوعات العديدة، وتنقل بين المكاتب العربية باحثا فاحصا، وقد حالفه التوفيق فأصدر موضوعة حافلة عن هذا العصر الغامض، تقع في أربعة أجزاء ضخمة. بلغ القسم الأول منها - وهو الذي تقدمه الآن - سبعمائة صحيفة دافقة بالمعلومات الغزيرة، في تركيب سلس وترتيب دقيق.
ولقد وفق الأستاذ محمود في اختيار هذا العصر بذاته، فقد مر به الكاتبون عابسين كالحين، ومن ألم به منهم إلمامه يسيرة، قسا عليه قسوة عاتية في حكمه، فجرده من المحاسن، ووصمه بما هو برئ منه وذلك ما دفع المؤلف إلى كتابة موسوعته الحافلة فأسهب واستطرد، وناقش وجادل، وعلل وحلل، ثم أصدر حكمه النهائي تنطق أدلته بالحق،