للكاتب الإنجليزي العظيم اللورد ماكولي طريقة انفرد بها في عرض آرائه والدفاع عنها، فقد أوتى بسطة في العلم، وامتاز إلى جانب عبقريته بقريحة وقادة، وذاكرة عجيبة، هذا إلى روعة في الأسلوب، وسلامة في المنطق، ولباقة في سوق المقدمات وضرب الأمثلة واستخلاص النتائج.
كتب رسالة عن الشاعر ملتن، وضح فيها آراءه في الشعر وتناول الموضوع من جميع نواحيه، ولقد أشار في رسالته إلى بعض المسائل التي يختلف فيها شعراؤنا وأدباؤنا اليوم.
كان ماكولي شديد الإعجاب بالشاعر الكبير، ولذلك أحفظه ما كتبه النقاد عنه وانبرى للرد عليهم في ماسة استثارت عبقريته وأيقظت قريحته. رأى هؤلاء النقاد يسلكون السبل الملتوية للحط من قيمة الشاعر، فبينما هم يسلمون في غير تحفظ بأن آثاره جديرة بأن تأخذ مكانها بين أعظم الآثار التي أنتجتها العقول البشرية، إذابهم يأبون على الشاعر أن يتبوأ مكاناً بين فحول الشعراء كهومير ودانتي وفرجيل وإضرابهم، وحجتهم في ذلك أن هؤلاء نشاؤا في عهد طفولة المدنية، فلم يكن لهم من المعارف مثل ما كان لملتن الذي نشأ في عهد مستنير وتلقى علماً منظماً، واطلع على كثير من آثار المتقدمين، ولكنهم على الرغم من ذلك قد تركوا للعالم آثاراً تجل على المحاكاة، فكانت شاعريتهم طبيعية تتجلى فيها الأصالة، وتشع منها العبقرية، ولا يمكننا على ذلك أن نضع ملتن في صفهم، بل إنه لينبغي علينا إذاأردنا الأنصاف أن نحسب على ملتن، عند قياس شاعريته، كل ما أتيح له من ظروف طيبة.
يسرد ماكولي آراء خصوم الشاعر ثم يعلن في حماس ويقين أنه على الرغم مما يقولون يقرر أنه ما من شاعر قد اضطر أن يغالب من الظروف أسوأ مما اضطر ملتن إلى مغالبته، حتى لقد كان يخيل إلى الشاعر أنه خلق متأخراً عما كان ينبغي له بأجيال، ذلك لأنه كان يحس أن شاعريته لم تستفد شيئاً من الثقافة التي تثقفها، بل إنه كان يتطلع بعين ملؤها الأسف إلى تلك العصور التي فاتته، عصور الكلمات البسيطة والتأثير العميق!