آثرت الحكومة البريطانية أن تغلط في فلسطين غلطتها في مصر، فاعتقلت رجال اللجنة العربية العليا، وحملتهم في بارجة حربية تمضي بهم الآن إلى سيشيل. وهذا عين ما صنعته في مصر لما ضاقت بالحركة الوطنية فيها ذرعاً، وتوهمت أنها إذا قبضت على رجال الوفد سهل عليها بعد ذلك أن تكفل الراحة لنفسها، والاطمئنان على تحقيق غاياتها في مصر. فذهب الزعماء إلى سيشيل وبقوا فيها ما شاءت السياسة البريطانية، فلم تخمد الحركة الوطنية، ولم يعدل المصريون عن مطالبتهم بالاستقلال، ولم يكفوا عن السعي لاسترداد حريتهم القومية، ولم ترجح كفة المعتدلين بعد أن أقصى الذين كانت تسميهم المتطرفين، وانتهى الأمر بالإفراج عن المعتقلين وإطلاق سراحهم وعودتهم إلى وطنهم، ثم لم تجد السياسة البريطانية بداً من الرجوع إلى هؤلاء المتطرفين وغيرهم من زعماء البلاد للاتفاق معهم على حل تستقر به العلاقات بين البلدين على حدود معقولة معروفة
والذي فعلته السياسة البريطانية في مصر وأخفقت فيه، ولم تجد منه جدوى، تفعله الآن في فلسطين، وما نظن بها إلا أنها ستخفق هناك أيضا. فإن رجال اللجنة العربية العليا ليسوا رجال تهييج، ولا هم الذين يحرضون على أعمال الإرهاب أو الاغتيال التي أثارت ثائرة البريطانيين، وأغرتهم بهذا العنف الذي تأخذ به زعماء العرب الآن، وإنما هم رجال سياسة يطالبون بحق بلادهم ويدافعون عنه، ويسعون للفوز به بالطرق المشروعة. ومن غرائب التفكير المقلوب أن الصحف البريطانية تقول في تعليقها على هذا الاعتقال والنفي إن القبض على المتطرفين خليق أن يفسح المجال لغيرهم من المعتدلين، ويشجعهم على الظهور والمعالنة بآرائهم التي كانوا يخافون الجهر بها. وتنسى هذه الصحف أن الأمر ليس أمر اعتدال وتطرف، وإنما هو أمر حق للبلاد يطلبه الجميع بلا فرق، ويجمعون عليه بلا تفاوت أو شذوذ أو اختلاف. ومن البعيد جداً أن يجرؤ أحد على التقدم باسم الاعتدال والمعتدلين بعد أن نكلت الحكومة البريطانية برجال اللجنة العربية العليا. وأخلق بكل عربي من أهل فلسطين أن يستنكر هذا العنف الذي لا مسوغ له، وذاك الظلم الذي ينزل برجال اللجنة العربية. والمعقول أن يمتنع العرب - متطرفوهم والمعتدلون منهم إذا صح