عني بكتابة التاريخ العام من نواحيه السياسية والحربية كثير من المؤرخين في مختلف العصور؛ وكان المؤرخون المسلمون في طليعة من تناولوا تاريخ الإنسانية على هذا النحو. وصدرت في العصر الحديث موسوعات تاريخية عديدة تعالج التاريخ عصوراً أو أمماً، ولبعضها قيمة علمية ونقدية رفيعة. ولكن تاريخ التفكير الإنساني لم ينل مثل هذه العناية، وقلما عولج على هذا النحو؛ ويندر أن يضطلع باحث واحد بمثل هذه المهمة الفادحة المتعددة النواحي؛ بيد أن هذا هو ما يضطلع به اليوم الكاتب العلامة الإيطالي جاكو مو برامبوليني؛ فهو يشتغل منذ أعوام بوضع تاريخ عام للآداب والمعروف أن إيطاليا تجيش اليوم بنهضة علمية وأدبية كبيرة، وقد عنيت الحكومة الإيطالية بالإشراف على إصدار موسوعة (دائرة معارف) إيطالية هي اليوم من أحدث وأقيم الموسوعات؛ وهي تشجع الحركة الفكرية بمختلف الوسائل، والسينور برامبوليني علامة واسع الثقافة، وكاتب وافر الخصب؛ ولم يرعه أن يضطلع وحده بكتابة تاريخ عام للتفكير الإنساني، وقد استطاع أن يصدر حتى اليوم جزأين من تلك الموسوعة الشاسعة؛ ولكنهما يدلان على ما بذل مؤلفهما من الجهد المستفيض، وما يمتاز به بحثه من الرسوخ والدقة. ويتناول الجزء الأول الذي تربي صفحاته على الألف، تاريخ التفكير في المشرق وفي العصور الغابرة؛ فالأدب الصيني وشعراؤه وفلاسفته، والأدب الياباني، والأدب الهندي وتراثه الفلسفي القديم، والأدب العربي في مختلف نواحيه، سواء في الجزيرة أو مصر أو أفريقية أو أسبانيا وصقلية، ثم الأدب الفارسي منذ سيروس إلى عصرنا، والأدب التركي، والأدب التتاري: هذه كلها يعالجها الأستاذ برامبوليني في الجزء الأول من موسوعته بأسلوب بديع فائق؛ ثم يعالج إلى جانبها آداب العصور الغابرة التي تغذت منها الآداب الأوربية، مثل الأدب الفرعوني، والأدب الآشوري، والأدب الإسرائيلي، والآداب اليونانية والرومانية بكل ما وسعت من ألوان الشعر والفن والجمال.
ويصل الأستاذ برامبوليني في الجزء الثاني من موسوعته في استعراض تاريخ التفكير الإنساني حتى العصور الوسطى، وذلك بعد أن يستعرض الآداب النصرانية الأولى في