للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من برجنا العاجي]

يدهشني في حياة الملكة فكتوريا تلك الإرادة التي استطاعت بها أن تفصل بين (واجبها) كملك تحكم، وبين (قلبها) كامرأة تحب. إنها كانت مشغوفة بزوجها الأمير (ألبرت)، ومع ذلك أقصته أول الأمر في قسوة عن دفة الملك وشئون الحكم، وهو الرجل الذكي الواسع الاطلاع، فكانت تدرس هي معضلات الدولة وتتركه هو يقتل الوقت بالقراءة وعزف الموسيقى. آه! ما أحوجني أنا إلى مثل هذه المرأة التي تتركني أقرأ وأكتب وأسمع الموسيقى، وتنصرف هي إلى حمل المسؤوليات وحل مشاكل العيش. . . شيء آخر يعجبني في تلك الملكة العظيمة: إنها كانت تقرأ. إني أحب الملوك والقادة الذين يقرأون. تلك هي الوسيلة التي بها يعرفون حاجات شعبهم. لقد قرأت فكتوريا بعض قصص (ديكنز) التي يصف فيها شقاء الطبقات الفقيرة، وأحست وهي في أبراج قصرها ما يعانيه ألوف من البشر يطؤهم ظلم أرستقراطية جامحة بعرباتها الفخمة وخيولها المطهمة، فأدركت من خلال سطور ذلك الأديب كيف أن في بلادها عالماً آخر مهملاً يئن من الجوع والبؤس ولا يلتفت إليه أحد. فتركت الملكة الكتاب وقامت صائحة مرتاعة لم يهدأ لها قرار حتى مدت يدها إلى أولئك المناكيد، فرفعت عن أعناقهم نعال الفئة الباغية، وأطلقتهم يعيشون في هواء الحرية والرخاء كما يعيش الآدميون. في مصر والشرق أيضاً بغي وبغاة، وظلم وظالمون من جميع الأنواع؛ وفيهما كذلك فقر وشقاء وجهل وظلام في كل ركن من الأركان. ولقد يسألني سائل: أين هو الأديب الذي يصف كل هذا البلاء، ويصور هذه الدنيا التعسة المهملة التي لم تمتد إليها يد إصلاح منذ أجيال؟ جوابي على هذا السؤال بسيط: هات لي من يقرأ، أحضر لك من يكتب. إن الطاهي لا يوجد إلا إذا وجد الآكلون. إن الشرق لن يتغير حتى يعلم قادته كيف يملئون أدمغتهم بكل ما يمكنهم من فهم حال شعوبهم. إن ربان السفينة لا يركب البحر قبل أن يعرف بعض أسرار الريح والماء ونجوم السماء. فلنرج دائماً ممن يمسك بالزمام أن يمسك أيضاً بالكتاب

توفيق الحكيم

بين الوطنية والأممية

للأستاذ ساطع بك الحصري

<<  <  ج:
ص:  >  >>