للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المغنية الضريرة]

من رسالة إلى صديق

أنت تأخذ على تبرمي بالحياة وانقباضي عما تزخر به القاهرة من شهوات السمع والبصر. ولكن أنسيت أن العين التي بيضها الحزن لا تستطيع أن تجتلي جمالا يرف في روضة، ولا حسنا يشرق في طلعة. وأن الفم المريض أزهد ما يكون في طعام وشراب. أنسيت أن صديقك كان يقطع أيام الشباب في مثل طلعة الصبح إشراقا وبهجة. ثم أمسى وقد استحال كل أولئك إلى ذكريات أليمة تعاوده في غرفة معزولة تدور به في مثل حلقة الواو كربا وضيقاً، فهو أبدا موصول الحنين متتابع الزفرات. أنسيت آمالي وأحلامي؟ (أما الآمال فقد عصفت بها النكبات حتى أحالتها إلى هشيم تذروه الرياح) وأما الأحلام فأنت تعرف أنها تكشفت عن رجاء ضائع وشباب هالك وحسرة لذاعة من شماتة الأعداء. ولكن مالي وللحديث في هذا ولست بسبيل من أن أتحدث إليك فيه اليوم؟ وإذن فدعني أحدثك حديث المغنية الضريرة التي سمعتها ليلة الأمس في حفل سعيت إليه في رفقة من الأصدقاء على الرغم مني. . . هي حلوة القسمات بديعة التكوين جميلة كالزهرة تسند في حدود الخامسة عشرة من عمرها. . . أخذت مجلسها على استحياء فيما يشبه أن يكون ذلة وانكساراً وشيئاً من الخجل غير قليل. وصدقني أن مرد ذلك فيما أعتقد أنها فقدت بصرها وهي طفلة لم تدرج بعد من لفائف مهدها. . وما أحسبك تعتقد أن سلاح المرأة في هذه الدنيا شيئا غير سهام العين. وفتنة اللحاظ ترسلها ذابلة مريضة، فإذا بها السيف حدة ومضاء، والشرك المنصوب لا يخطئ الفريسة ولا يعد والغرض. ولكن الأقدار التي قست عليها فجردتها من سلاحها الوحيد كامرأة لم تشأ أن تقسو عليها القسوة كلها فمنحتها صوتا عذبا حنونا يفيض بالأسى وتقطر من جوانبه اللوعة. . . وارتفع صوتها بالغناء حزينا شاكيا يهيج ودائع القلب. ويستدر روافد الدموع.

أتعرف ذلك البلبل الذي هاجمته جيوش الظلام. قصياً عن العش الذي عرف، والدوح الذي ألف، والنبع الذي منه رشف، والجو الذي في أنحائه غنى وهتف، أسمعته وهو بين لهفة إلى مهوى الفؤاد تقيمه، ووحشة من رهبة الليل تقعده، يصب ألحانه في إذن الوجود باكية حزينة تهز أوتار القلب. وتنتزع منه العطف والإشفاق والرثاء؟ أسمعته يشكو بغير لسان،

<<  <  ج:
ص:  >  >>