للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[اللغة والدين والعادات باعتبارها من مقومات]

[الاستقلال]

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

ليست حقيقة الأمة في هذا الظاهر الذي يبدو من شعب مجتمع محكوم بقوانينه وأوضاعه؛ ولكن تلك الحقيقة هي الكائن الروحيُّ المكتنُّ في الشعب، الخالص له من طبيعته، المقصورُ عليه في تركيبه؛ كعصير الشجرة لا يُرى عمله والشجرة كلها هي عمله

وهذا الكائن الروحي هو الصورة الكبرى للنسب في ذوي الوشيجة من الأفراد، بيد أنه يحقق في الشعب قرابة الصفات بعضها من بعض؛ فيجعل للأمة شأن الأسرة، ويخلق في الوطن معنى الدار، ويوجد في الاختلاف نزعة التشابه، ويرد المتعدد إلى طبيعة الوحدة، ويبدع للأمة شخصيتها المتميزة، ويوجب لهذه الشخصية بازاء غيرها قانون التناصر والحميَّة؛ إذ يجعل الخواطر مشتركة، والدواعي مستوية، والنوازع متآزرة، فتجتمع الأمة كلها على الرأي: تتساند له بقواها، ويشد بعضها بعضاً فيه. وبهذا كله يكون روح الأمة قد وضع في كلمة الأمة معناها

والخلق القومي الذي ينشئه للأمة كائنها الروحي، هو المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهو قانون نافذ يستمد قوته من نفسه، إذ يعمل في الحيِّز الباطن من وراء الشعور، متسلطا على الفكر، مصرِّفاً لبواعث النفس؛ فهو وحده الذي يملأ الحي بنوع حياته، وهو طابع الزمن على الأمم، وكأنه على التحقيق وضعُ الأجداد علامتهم الخاصة على ذريتهم

أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه؛ فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة. والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها؛ وعمقها هو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل؛ وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطماحها، فإن روح الاستعباد ضيق لا يتسع، ودأبه في المستعبدين لزوم الكلمة والكلمات القليلة

وإذا كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>