يدور حديث الأدباء عن إمام في خفوت وهمس، فآنت تجد من يذكر له النكتة الرائعة، أو البيت الجيد، أو الحادثة الغريبة، دون أن يتعدى ذلك في قليل أو كثير، فإذا أردت من يلم بدقائق أخباره، وينشد روائع أشعاره، ويحلل مواقفه الاجتماعية والأدبية أعوزك أن تهتدي إلى ضالتك المنشودة، وخيل إليك أن إماماً شاعر قديم نشأ منذ قرون بعيدة، وسكتت عنه المراجع التاريخية، فما جاء عليه أحد معاصريه بترجمة وافية تضمن لتاريخه البقاء، مع أن شاعرنا البائس أديب معاصر، لا يزال يوجد بين أدبائنا من سامروه وحفظوا عنه وتغدروا به، ولكن بؤسه الذي صحبه في حياته قد امتد إلى تاريخه، فكاد أن يأتي عليه. والبؤس طاغية جبار، يصاول الأحياء في عنف وطغيان، فإذا لفظوا أنفاسهم بين يديه، عدا على القبور، فمزق الأكفان وبعثر الأشلاء!
ولد إمام من عبدين رقيقين قد جلبا من السودان، وبيعا لبعض الأثرياء، فورث عنهما السواد والدمامة والبؤس، ونشأ في كنفهما يقتات بما يتساقط من فتات الموائد وبقايا الصحاف، وكأن القدر لم يشأ أن يحرمه كل شيء، فمنحه القوة في الجسم، والبلاغة في المنطق، والخفة في الروح، فكان رياضيا ممتازاً يصرع أقرانه لدى الصيال، وشاعراً مطبوعا يحتكم في القوافي والأوزان، وخطيباً تعرفه الحفلات السياسية، والأندية الاجتماعية، وسميراً يؤنس سامعيه بالملحة النادرة، والفكاهة العذبة، وقل أن يجتمع هذا كله لإنسان!!
وكان لونه الأسود موضع التندر بين زملائه وعارفيه، فقاسى من جرائه كثيراً من ألوان التهكم والاستخفاف، وهذا ليس بعجيب، فقد ابتلى كثير من الأدباء قبله ببلواه، فدافعوا عن أنفسهم أبلغ دفاع، وحفظ لنا الأدب قلائد فاتنة لنصيب وعنترة والجاحظ، يلجمون بها من ينتقصونهم في أمر لا يوجب النقيصة بل وجد فيهم من فضل السواد على البياض، ودبج في ذلك الفصول الطوال!!
وكان حافظ إبراهيم رحمه الله أقسى المتهكمين لهجة، وألذعهم سخرية، وكانت فكاهته معه تأخذ طريقها إلى الألسنة في سرعة فائقة، فما يكاد شاعر النيل يرسل تندره العابث