للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[عصر الخفاء في مصر الإسلامية]

٤ - الحاكم بأمر الله

للأستاذ محمد عبد الله عنان

والآن ماذا نستطيع أن نقرأ في هذا الثبت الدموي الحافل من خواص الحاكم وصفاته؟ لقد كانت هذه الجرائم المثيرة بلا ريب عنوان اجتراء مروع على الشر، وشغف واضح بالسفك واحتقار بين للحياة البشرية؛ ولكنها لم تكن نزعة دموية فقط، ولم تكن بالأخص دون غاية. كان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة للحكم، وكان القتل المنظم دعامة هذا الإرهاب الشامل؛ فإذا زعيم أو رجل من رجال الدولة وصل إلى مدى خطر من السلطان والنفوذ، فإن القتل انجح وسيلة لسحقه وسحق نفوذه؛ وإذا بدرت من فريق من الناس بادرة تذمر أو تمرد على أمر من الأوامر أو قانون من القوانين، فإن إزهاق عدد منهم يكفل عودهم إلى السكينة والخشوع. وكانت هذه السياسة الدموية تحيط عرش الحاكم بسياج منيع من الرهبة، وتخمد الأطماع المتوثبة في مهدها، وتنذر الزعماء ورجال الدولة بالخضوع المطلق لهذا الفتى الجريء. ولقد كان القتل دائماً وسيلة الطغاة إلى تأييد سلطانهم، وكان الحاكم طاغية قوى النفس والشكيمة. وقد كانت الأهواء والفورات العنيفة التي تجيش بها نفس الحاكم تمد هذه السياسة الدموية بروح من الإسراف والقسوة، ولكنها كانت في نظره قبل كل شيء وسيلة من وسائل الحكم، وكان لها بلا ريب اكبر الأثر في توطيد سلطة الحاكم، وسحق عناصر الخروج والثورة التي تتربص عادة بأمثاله الطغاة المسرفين

هذا ويفسر لنا بعض المؤرخين المسلمين إسراف الحاكم في القتل بأنه كان تقرباً منه (لزحل وطالعه المريخ)، وقد كان الحاكم شغوفاً بالفلك ورصد النجوم كما سنرى، ولكنا لا نستطيع أن نسيغ هذا الرأي من الوجهة التاريخية، فليس في سيرة الحاكم رغم شذوذه، وتباين معتقداته وشغفه بالخفاء، ما يدل على أنه كان يأخذ بمثل هذه الرسوم الوثنية المثيرة

- ٦ -

كان شغف الحاكم بالليل من اظهر خواص هذه المرحلة الأولى من حكمه. كان الحاكم يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطراً كبيراً من الليل في جوب الشوارع

<<  <  ج:
ص:  >  >>