للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ذكرى عيد]

للأستاذ منصور جاب الله

تجرّمت سنون وسنون عهدت فيها قومي إذا ما أظلهم العيد، فزعوا إلى قبور تملأ الرحب، ويتيه دون حصرها البصر، فطووا هنالك الساعات الطوال يبكون آباءهم وآباء آبائهم، فإذا جنهم الليل ثووا إلى دارهم، وكأنما العيد في أنفسهم أشجان وأوصاب وآلام.

وإذ أنا طفيل لا أميز درجت على محاكاة هذه العادة، حتى أمسيت معيدا لها وتعلقت مني بالطبع، فما دلف عيد إلا وجدتني أهرع إلى المقابر أخط بين شعابها، وما أحسب أن هذه الأجداث كان لها يومئذ وحي في قلبي أو صدى في نفسي

لقد كانت النفس كابية بليدة، والطفل مادي بطبيعته لا يأخذه إلا ما تعلق بالحس ورمز إلى الفم، وكان من لطف الله بي أن جعل طفولتي ماتعة يانعة، وكفل لي في ريق الصبا الهناءة والمسرة، ومن لطفه أن خلى لي والدي وأخوتي، فلم أفجع في أصل من أصولي، ولم أرزأ في فرد من حاشيتي إلا من توفى في المهد، وسمك ستار النسيان بيني وبينه، وتراخى دون ذلك حبل الزمان

وإذ تتصل النفس بهذا، ويمد لها في أسباب المرح، وأغدو في صحبة من لذاتي متهللين مفاريح، لا يكون علي من حرج إذا زعمت أني كنت أرى قبور السابقين من أهلي وعشيرتي بعين لا ترى في الحياة إلا كل سار بهيج، وأنها كانت مني بمنزلة الأرجوحة ومقام الألعوبة، ألهو بألوانها وتزويقاتها كما ألهو بأحماض الحياة الأخرى

ولا احسبني بكيت مرة ولا اعتبرت ولا استعبرت إذ أطالع رقيم قبر تدلى صاحبه إليه لعهد قريب

لقد رأيتني من الموت بمنجاة، فما فكرت فيه، ولا استكنهته، ولا عرفت شيئا عن برزخ الموتى، ولو أني جواب في مدينة الأموات!

بيد أن شيطاني لقد ذهب في غلوائه بعيدا، فحدثني بالخلود حين أجول في مدينة الأموات أرقب صخور مقابرهم تنهشها يد الزمان، وتأتي على حجارتها وطلائها عاديات البلى، فتهدها هداً وتمهدها أجداثاً لقوم آخرين

لكنما كان يتغشاني في بعض الحين خشوع لا يستعلن لي كنهه ولا يستبين أمره، فأوقن في

<<  <  ج:
ص:  >  >>