للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من رسائل الصيف]

النيل المنتصر

للأستاذ عبد الحميد يونس

أخي إبراهيم:

. . . وشاءت الأقدار أن تحول بيننا وبين اللقاء فوق تلك الصخرة الناتئة في البحر عند سيدي بشر، التي يعرفها الناس باسم صخرة (بئر مسعود). . . وكنا قد تعودنا اللقاء عندها كل صيف، ولعلك لم تنس بعد ما كان لنا هناك من مجلس وما دار بيننا من حديث

ألم يكن يهولنا البحر الذي رأيناه كائناً حياً يفيض بالمشاعر ويزخر بالأحاسيس؟ أما عجبنا من بغضه للقراءة وعداوته للأوراق مما يحجب الإنسان عن الاتصال به والغناء فيه؟ وكم من مرة اختطفت نسائمه، وما عرف عنها من فضول، الصحف من أيدينا، فما رددنا ذلك - لفرط افتتاننا به وقتذاك - إلى الجهل، وإنما رددناه إلى اختلافنا وهذا البحر في النظرة والاتجاه، فنحن قد عكفنا على القراءة عكوفنا على لفائف التبغ إنفاقاً لجهد محتبس وتزجيه لفراغ طويل، وفراراً من العقل والقلب جميعاً!

ألم نكن نأخذ على هذا البحر ولوعه بالجمال وكلفه بالحسن، لا يبالي في ذلك احتشاماً ولا يحفل بتقليد؟ ألم ننتقد فيه تلك الإباحية التي تدفعه إلى إيثار العري أو ما يشبه العري، ولا نأبه لدفاعه على ألسنة أمواجه المدمدمة ورياحه المصفقة، بأن التخفي والتستر ضرب من النفاق يجب أن يزول؟

ألم تكن تلمح فيه بنوع خاص عزوفه عن تكلف الزينة التي أصبح الناس يحذقونها إلى حد جعل السواد الأعظم منهم لا يفرق بين الطبيعة والصناعة في قليل أو كثير، بل حتى وأصبح الفن لوناً من التزييف المحكم الدقيق؟

ألم نلاحظ في ذوق هذا الهمجي توحيده بين الجمال والقوة، أو على الأقل تقريبه بينهما، ثم تفرقته بين الجمال والجنس حتى لكأنه يوناني النزعة في تفضيل الذكور على الإناث في النوع الإنساني. . .؟

لقد سرنا أيها الصديق شوطاً بعيداً في محاولة الكشف عن شخصية هذا الكائن المهوب ودراسة نوازعه ومعرفة أهوائه. ومن يدري فربما كنا نكسب عليه شعاعاً من نفوسنا نحن،

<<  <  ج:
ص:  >  >>