للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مذكراتي اليومية]

يوم الأحد ٢٣ فبراير سنة ١٩٤٧:

اختلف أطبائي الخمسة في شرح ما بي، ولكنهم اتفقوا على أن أذهب إلى حلوان فأنقع في هدوئها ودفئها أعصابي وأوصابي. ففي صباح هذا اليوم العابس القر انتقلت إلى هذه المدينة ونزلت فندقاً من فنادقها الكبرى، ثم قطعت ما بيني وبين دنيا الناس فلا أشغل ذهني بفكر ولأيدي بعمل - هذا الفندق الغريق في الضوء والسكون أشبه الأشياء بالدير الجبلي في روعته الأخاذة ووحشته القابضة: وهؤلاء النازلون به المستشفون فيه أشبه الأحياء بالرهبان المنقطعين في معيشتهم الرتيبة وعزلتهم الرهيبة. إنه كالدير في غير بساطة ولا زهادة؛ وإنهم كالرهبان في غير ورع ولا عبادة. هم أزواج ومزاج من جاليات الأمم الذين انتجعوا مصر انتجاع البدء ومساقط الغيث، ففيهم اليوناني والطلياني واليهودي، وفيهم كذلك خلق عجيب من جيراننا الأدنين يلبسون القبعة حتى لا يقال إنهم مصريون، ويتكلمون الفرنسية حتى لا يتهموا بأنهم شرقيون. وأكثر هؤلاء الأخلاط كهول وكهلات يشكون ذات الصدر أو وهن الأعصاب أو وجع المفاصل أو داء الملوك؛ فمنهاجهم اليومي أن يغدوا إلى العين الكبريتية فيستحموا، أو إلى العين المعدنية فيشربوا، فإذا متع الضحى رجعوا فرادى وثناء حتى يتجمعوا حلقاً حول الموائد تحت مضلات الحديقة وفوق شرفات الفندق. فهنا جماعات العجائز السمان والعجاف جلسن يثرثرن وفي أيديهن إبرة الحياكة تدخل وتخرج، وفي أفواههن آلة الغيبة تتحرك وتهرج، فلا يزلن معظم النهار بين أيد تحوك، وألسنة تلوك، وأهدافهن أعراض أولئك الحسان القليلات اللائى جلسن متفرقات يهدهدن أجسامهن وأحلامهن على الكراسي الوثيرة الهزازة.

وهناك جماعات الكهول الثقال والخفاف يتراطنون بفضول الكلام وغث الحديث ولؤم الوقيعة، وكل منهم يتفغل عجوزه المراقبة من بعيد ليخالس النظر إحدى أولئك الجميلات المنفردات فلا يرى منها بالاً يعي ولا طرفاً يجيب!

كان مرضي يمنعني القرار في مكان واحد، فكنت أسترق السمع حيناً إلى جماعات النساء، فلا أجد حديثهن يخرج عن أن هذه الفتاة الداخلة عشيقة الغنى فلان تاجر القطن وقد أخفاها عن زوجه في هذا الفندق، وهو يزورها من الإسكندرية كل أسبوع فيقضي معها الليلة أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>