كانت الفلسفة وهي في مهدها مطمئنة إلى تلك الأداة التي اتخذتها سبيلا إلى تفهم الكون وما يحوي من سر مكنون، فكانت تأتمن هذا العقل الإنساني وتثق به وثوقا لا يعرف الشك، ولكنها ما لبثت أن اشتد ساعدها واستقامت على قدمين راسختين، فانقلبت على تلك الأداة نفسها، وداخلها الريب في أمانتها ودقتها فيما تنقل إلى ذهن الإنسان من صور العالم المحس، فتناولتها بالبحث والتحليل.
وتظن أن (لوك) كان أول من تصدى لذلك البحث في تاريخ الفكر الحديث، وقد انتهى بعد بحثه الطويل إلى إنكار الآراء الفطرية التي يقول دعاتها أنها تولد مع الإنسان كمعرفة الخير والشر مثلا، وأكد أن العقل عند ولادة الطفل يكون كالصفحة البيضاء، خالياً من كل شيء، وقابلا للانفعال بالبواعث المختلفة، فإذا ما مرت به تجارب الحياة المختلفة، تركت فيه آثارا لا تمحى، وطريق تلك التجارب إلى العقل هي الحواس وحدها، وليس في حنايا العقل أثر واحد لم يسلك طريق الحواس أولا، فالآثار الخارجية تنتقل إلى الذهن في احساسات مختلفة، ثم تولد هذه الاحساسات شتى الآراء والأفكار. وما دامت الأشياء المادية وحدها هي التي يمكن أن تنتقل عن طريق الحواس، إذن فكل معلوماتنا مستمدة من الأجسام المادية دون غيرها. ومعنى ذلك ان المادة عند (لوك) هي كل شيء.
ثم جاء (بركلي) وخطا بعد ذلك خطوة جريئة. فقد سلم بمقدمات لوك، ولكنه اختلف وإياه في النتيجة. ألم يقل لوك بأن معلوماتنا جميعاً مشتقة مما يجيء عن طريق الحواس؟ إذن فنحن لا ندري عن الشيء الخارجي الا الاحساسات التي تنبعث إلينا منه، والأفكار التي تتولد من هذه الاحساسات عند وصولها إلى الذهن. خذ تفاحة مثلا، فهذا لونها يصل إليك ضوءاً عن طريق العين، وهذه رائحتها تصل عن طريق الأنف، وذاك طعمها تعلمه عن طريق الذوق، وذلك ملمسها وشكلها يصلان إليك عن طريق أعصاب اليد، فإذا تناول هذه التفاحة كفيف البصر؛ علم عنها كل شيء الا لونها، وإذا كان فاقداً لحاستي الشم والذوق، اقتصرت معرفته على الشكل والملمس، فإذا فرضنا أن أعصاب يده فقدت عملها أيضا، أنكر صاحبنا وجود التفاحة في يده مهما قدمت إليه من وسائل الإقناع. فلولا الحواس لما