كان للأشياء الخارجية وجود بالنسبة إلينا على الأقل. فالحواس هي التي كونتها. ولذلك لم يتردد بركلي في إنكار المادة إنكاراً تاماً. ولا يعترف بوجود شيء الا حقيقة واحدة يحسها في نفسه وهي العقل.
أجهز بركلي على المادة فمحاها من صفحة الوجود، وأشفق على العقل فسلّم به، ولكن جاء بعده هيوم، فأبى أن يقف عند هذا الحد المتواضع من الإنكار، وسارع إلى العقل بمعوله فألقاه في هوة العدم! ما هذا العقل الذي يتشبث بوجوده بركلي؟ ابحث في نفسك بحثاً باطنياً وحاول أن تعثر على ذلك العقل باعتباره ذاتاً مستقلة، فلن تعود بطائل، ولن تصادف في نفسك إلاّ سلسلة من الأفكار والمشاعر والذكريات يسوق بعضها بعضاً. فليس ثمة عقل، ولكنها عمليات فكرية وصور ذهنية لا أقل ولا أكثر. وإذاً فقد انهار العقل كما انهارت المادة من قبل! وهكذا قوضت الفلسفة بفؤوسها كل شيء، ثم وقفت بين تلك الأنقاض الخربة لا تجد وقوداً يذكيها، فقد ضاع العقل وضاعت المادة ولم يبق لها منهما شيء!؟
ولكن الله قيض لها فيلسوفنا العظيم (عمانوئيل كانت) فأعاد البناء من جديد، وشيده على أسس قوية ثابتة لا تزال قائمة حتى اليوم. فقد أنكر بادئ ذي بدء ما ذهب إليه لوك والمدرسة الإنجليزية إنكاراً تاماً، لأن التجارب التي يقول عنها لوك أنها مصدر معرفتنا جميعاً، لا يتحتم أن تلازمها الصحة دائماً، فهي إن صحت نتائجها اليوم فقد تخطيء غداً، فضلا عن أنها تقتصر على الجزئيات ولا تتعداها إلى التعميم الذي ينزع إليه العقل بطبيعته، ومما لا ريب فيه أن لدينا من الكليات العامة ما يستحيل عليه الخطأ، كأن نقول مثلا أن ٢ ٢=٤ فهذه حقيقة لم نعتمد في تحصيلها على تجربة خارجية، وإنما اكتسبت ضرورتها من طبيعة عقولنا، فليس العقل الإنساني سلبياً، ليس قطعة من الشمع تولد خالية ثم تخط فيها التجارب ما تشاء كما ذهب لوك، كلا ولا هو أسم يطلق على سلسلة الحالات العقلية كما ادعى هيوم، انما هو عضو فعال، يتناول الاحساسات التي تأتي إليه من العالم الخارجي فيؤلف بينها، ويكون منها الأفكار المختلفة، ويصبها في القالب الذي يشاء. العقل الإنساني قوة إيجابية تعمل على تنظيم ملايين التجارب التي تصادف الإنسان في حياته، وتخلق منها وحدة فكرية منظمة! ولكن كيف؟
يجتاز العقل في ذلك مرحلتين: الأولى هي الانتقال من مجرد الإحساس إي وصول الأثر