للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من أحاديث الإذاعة:]

شهيد العيد. . .!

للأستاذ علي الطنطاوي

كلفتني محطة الشرق الأدنى أن اكتب قصة لتذاع عني أول يوم من عيد الأضحى، وهذا هو العيد قد حل وحلت عليكم فيه البركات والخيرات، ولكن القصة لم تكتب. . . أن لها قصة يا سادة، فاسمعوا قصتها. . .

أنا رجل من طبعه التأجيل والتسويف، أؤخر الأمر ما دام في الأجل فسحة، وأرجة إلى أخر لحظة منه، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزاً مثل الأرنب الذي زعم (أخونا. . .) لافونتين أنه نام حتى سبقته السلحفاة، وأن لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنباً. . .

فلما ورد علي كتاب المحطة نظرت فإذا بيني وبين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأنت ونمت، حتى إذا كانت ليلة العيد، ولم يبق أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الجوي، أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب فسدت على أبواب القول ومنافذه وكواه. . . وعدت مرتجاً علي محبوساً لساني كأني ما مارست الكتابة قط، كذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق، ثم تشح شح الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء، ولكن الناس لا يصدقون ذلك: أنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجئ أحياناً حتى ما يقدر الأديب على ردة، ويعزب حينا حتى لا يلقاه، وأنه يعلو ويصفو وينزل ويتعكر، وما عجزت الليلة عيا ولا فهاهة، فأنا اكتب في الصحف من عشرين سنة، ولكن الكتابة بالأجرة بيع وشراء، ولكل مبيع ثمن، وأنا احب أن أنتصف وأنصف الناس من نفسي، لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة، فتركته وفتشت عن أغلى، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئا، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حواراً للفلم وجعلوا له جعلا ضخماً، فحصر فيه فكره، وحشد له قواه، وفر لأجله من داره. ثم انتهى به الأمر أن ألف كتاب (الحمار) ولم يضع الحوار.

عند ذلك أيست ولبست ثيابي، وهربت إلى الأسواق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>