. . . كان معروفاً بالشذوذ والخروج عن المألوف، لا يبالي إذا اتجه له الرأي ما يقول فيه الناس، ولا يحفل إذا أزمع الأمر نهى ناهٍ ولا نصيحة ناصح، وكان يعرف ذلك من نفسه ولا يغضبه أن يوصف به، بل كثيراً ما سمعناه يتحدث به ويطيل الحديث، يجد في كشف دخيلته للناس لذة وارتياحاً، كأنما هو يلقي عن عاتقه حملاً ثقيلاً. . .
يجمع في نفسه المتناقضات: فبينما هو منغمس في لج الحياة المضطربة المائجة يفزع من الوحدة، ويكره الهدوء، ويركب متن المغامرات في الأدب وفي السياسة، يحطب في المجامع، ويناقش في الصحف، وبينما هو مطمئن إلى هذه الحياة، مقبل عليها، إذا به قد استولت على نفسه (فكرة صوفية. . .)، فغمرت الكآبة روحه، وفاض اليأس على قلبه، وأحس الحاجة إلى الفرار من الناس، والرغبة في العزلة المنقطعة، وأصبح يكره أن يرى أمس أصحابه به، وأدناهم إلى فلبه، ويحب الحياة الساكنة الهادئة، ويجد الأنس في حديث قلبه ومناجاة ربه. . .
وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار، واتباع (الرسميات)، فلا يكون في مجلس إلا حركه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح، والود الخالص، ولكن موجة من الحزن المفاجئ، قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سروراً، وأكثر المجالس طرباً فإذا هو حزين كئيب. قد ضاق بالناس وتبرم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغباً في الجد محباً للوقار، متلبساً بالصرامة والحزم، منصرفاً عما كان فيه منذ لحظة واحدة، لا يعرف الناس ولا يعرف هو، ماذا أصابه، فنقله من حال إلى حال.
تغلب عليه العاطفة حيناً فيمسي ارق الناس شعوراً، وأرهفهم حساً؛ يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق، أو القصة