(. . . لم يتيسر لي قراءة كل كتبك. إنما الذي قرأته لك هو مقالات وقصص ومساجلات في الصحف والمجلات ومع أن كل آرائك حرة وجريئة إلا أن رأياً واحداً هو الذي ملك شعوري وكياني: (إن من ملك قلباً حاراً ولساناً حراً فهو الذي يستطيع أن يسود العالم). سيدي: أن قلبي لحار وإن لساني لحر وبهاتين الوسيلتين يعظم أملى في المستقبل. إني أعشق الجمال وأحب الأدب الرفيع ولكنهم يريدونني أن أكون معلماً بإحدى المدارس الإلزامية. أن جو القرية يكاد يخنقني. أريد أن أؤدي رسالتي في الحياة، وهي رسالة الكاتب الموهوب، لا أن أعيش على هامش الحياة! أنه ليسرني أني استطعت إسماعك صوتي. فإن رأيت يا سيدي أن هذه النواة أهل للحياة فتعهدها بالغرس والري. لي من حسن الأمل فيك ما يجعلني أطمئن إلى انك لن ترمي برسالتي في سله المهملات. . .)
قبل كل شيء أحب أن أقول لصاحب هذه الرسالة أن يحسن ظنه بحياته. فلئن كان هنالك إنسان يعيش على هامش الحياة فهو أنا صاحب هذا البرج القصيّ. أن جو القرية لا يمكن أن يكون خانقاً للقلب الشاعر. وإن مهنة التعليم والعمل على تكوين نفوس نبيلة، ونفخ روح الجمال في نشء ساذج، وإيقاظ عيون صغيرة على حسن الطبيعة؛ كل هذا خلق فني في ذاته. ولكننا لا نريد أن نرى الخلق إلا في مقال يكتب، ولا المجد إلا في هراء ينشر. هنالك شعراء عظام ما فارقوا قراهم قط وما تركوا صناعاتهم الصغيرة قط. أن القلب الحار يسبغ الخير والجمال على ما حوله. ولو كان لصاحب هذه الرسالة قلب حار حقيقة لظهر لهذا أثر في قريته ومدرسته أولاً ثم في مادة نفسه ثانياً. فالقلب الحار يحتاج إلى وقود ليشع ولا يخمد وأيسر الوقود الكتب. وصاحب الرسالة لا يقرأ كتباً ولكنه يطالع مطالعات سطحية سريعة ناقصة. كم من الأعوام وكم من أكداس الكتب تلزم للقلب وقوداً حتى يقال أنه (قلب حار)!