للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من صميم الحياة]

في حديقة الأزبكية

للأستاذ علي الطنطاوي

كنت بالأمس عند الأستاذ الزيات فدخل علينا شاب في نحو الثامنة عشرة عراقي، فسلم وقعد ساكتاً لا ينبس، وجعل ينظر إليَّ كأن في فيه كلاماً يريد أن يقوله، ولكنه لا يحب أن يظهرني عليه، فهو يتبرم بمجلسي، ويرقب قيامي، فلما طال منه ذلك، قال له الأستاذ: (تفضل!). فقال متردداً: (أني أريد أن أقص عليكم قصتي. . . علَّها. . . تكتب في الرسالة. . . ولكن. . . سأجيء في وقت آخر) وألقى علَّي نظرة لا أقول من نار، ولكن من حروف وكلمات تقول: (لولا هذا الرجل!).

قال الأستاذ معرفا بي: (انه فلان، وهو من أسرة الرسالة فقص القصة أمامه، فلعله إذا سمعها منك كتبها هو). فلما عرفني اشرق وجهه واطمأن وانطلق يقول. . .

وصلت مصر للدراسة في مدارسها في أكتوبر الماضي، وكانت تلك أول مرة اقدم فيها إلى القاهرة، وارى فيها الدنيا، أمضيت عمري قبلها في قرية لا تعرف إلا الجد، ولا تقبل على غير الحرث والدرس، ما فيها إلا الحلقة والحقل، ما فيها سينما ولا ملهى، ولا تلقي في طرقها امرأة سافرة، ولا تصادف في حقولها فتاة، لم اخرج منها إلا مرة واحدة وأنا صغير زرت فيها النجف مع لدات لي فرايتها مدينة عظيمة فيها كل ما يبهج ويهيج، وسعدت فيها أياماً، ثم عدنا إلى القرية، والى حلقة الشيخ، فقرانا عليه كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة، ثم اقبلنا على الأدب، نعب الشعر الغزل، كما يعب من النبع العذب الصادي الظمآن، ونحفظه في صدورنا كما يحفظ الشحيح الموسر ماله في صندوقه، فيكون في صدورنا الفتية المشتعلة بالعاطفة حطبا يابساً يزيد اشتعال، ولكنه يكون لقرائحنا مدداً، ولألسنتنا ثقافاً، ولنفوسنا صقالاً، وكانت لنا صبوات يحركها سواد المرأة وهي تخطر في سوق القرية بعباءتها السوداء السابغة، وظلتا من خلف زجاج النافذة، وصوتها من وراء الباب، لا نرى منها اكثر من ذلك، فكان يثير سواكن هذه القلوب التي ما عرفت طريق الإثم. . . وإن لم تخل القرية من آثمين (من الشباب) ومن آثمات.

- قلت: فما فائدة الحجاب؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>