تكلم سان بيف - إن صدقتني الذاكرة - على أدب المذكرات الخاصة الذي شاع بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر في طائفة المثقفين والمثقفات من أهل فرنسا فعلل شيوع هذا الأدب بحب الظهور أو حب التحدث عن النفس والعكوف عليها. وقال ما فحواه: إننا نحن الفرنسيين نحب أن يتحدث عنا الناس وأن نتحدث عن أنفسنا فكتبنا. فأن عز علينا ذلك في المحافل والأندية خلونا إلى أنفسنا فكتبنا عنها في مذكراتنا الخاصة وجعلنا من سيرتنا موضوعاً يشغلنا كأننا أبطال المسرح ونظارته في وقت واحد. وهذا هو عنده - إن صدقتني الذاكرة مرة أخرى - تعليل أدب المذكرات الذي شاع قبيل عصره بين الفرنسيين والفرنسيات
وصاحب هذا التعليل لم يوفّ السبب الصحيح كل التوفية فيما نراه
فإن المذكرات الخاصة لم تشع بين الفرنسيين وحدهم في تلك الفترة، ولكنها شاعت كذلك بين الإنجليز وبدأت عندهم على الأرجح قبل ابتدائها عند الفرنسيين. فأثرت عنهم اليوميات من أوائل القرن السادس عشر إلى أيام الثورة الفرنسية، وكانت لهم فيها أفانين لا تنحصر في نوع واحد من أنواع الملاحظة والتدوين
والأغلب في اعتقادنا أن كتابة المذكرات الخاصة عادة سرت إلى أبناء فرنسا وإنجلترا معاً من عادة الاعتراف التي دان بها التابعون للكنسية الكاثوليكية زمناً في كلتا الأمتين. فكان إفضاء الكاتب بأسراره إلى دفتره المكنون ضرباً من الاعتراف بين يدي الكاهن بالخطايا والذنوب وخفايا النيات، وأصبحت كتابة المذكرات هي باب الاعتراف الوحيد الذي ظل مفتوحاً لمن تحولوا عن الكنيسة الكاثوليكية وعدلوا عن الاعتراف بين أيدي الكهان
وربما أضيفت إلى هذا السبب أسبابٌ أخرى نفسية كمزاج البوح والمكاشفة الذي يطبع عليه بعض الناس، وأسباب أخرى سياسية واجتماعية كاضطرام الفتن واختلاف العادات، وصعوبة المفاتحة بالأسرار بين أناس متدابرين مستريبين فيما يضمر كل منهم من العقائد والميول
والدكتور طه حسين قد جمع بين حسن الإلهام وحسن التعليل حين عرض لهذا الأمر في