لم يكن يرى شيئاً من هذه المناظر الجميلة المتنوعة التي يمّر بها القطار، ولم يكن يسمع شيئاً مما يدور حوله من أحاديث الناس. كان في دنيا الماضي يجوس خلالها، ويقف على بعض مشاهدها وقفات طويلة مفكرة. هو ماضي أليم، ولقد كان نجح بعد جهود مرّة في إسدال الستار عليه، وفي نسيان ما فقد فيه من آمال عزيزة قرّح فقدها قلبه قبل جفنه، ولكن هذا الماضي انبعث الساعة أقوى وأوجع ما يكون!
كان يرتقب قطار الإسكندرية الذاهب إلى مصر، فما راعه إلا ضابط كبير من رتبة (قائمقام) يربت على كتفه في بعض العنف قائلا: (مجاهد! من أين وإلى أين). ولقد ذعر مجاهد أول الأمر إذ وجد صاحب اليد التي تربت على كتفه ضابطاً كبيراً لا يعرفه ولا يذكره، ولكنه ما لبث أن ملك نفسه حين تبسم الضابط ضاحكاً وهو يقول:(ألا تعرفني؟ ألا تذكر محمد رأفت زميلك في مدرسة القربية الابتدائية في مصر؟ ما أضعف ذاكرتك وأقل وفاءك! ألست تذكرني حقيقة؟ وهل نسيت ثالثنا إبراهيم عثمان؟ إني أذكر بيتكم في القربية، كم لعبنا فيه أنا وأنت وإبراهيم! وأين إبراهيم يا مجاهد؟ وأين مستقرك أنت الآن؟) وأجاب مجاهد في انكسار واختصار: (إبراهيم لا أعرف عنه شيئاً. إن خمسة وعشرين عاماً ليست قليلة يا بك. فأما أنا - وألقى بطرفه إلى الأرض خجلاً - فمدرس هنا في طنطا في شمس المعارف الأهلية. . .)
وجاء القطار، فتصافحا وافترقا: الضابط إلى عربات الدرجة الأولى، ومجاهد إلى عربات المؤخرة. . .
كان هذا اللقاء الشّرر الذي سعّر الوجد في صدر مجاهد، ليس من حقد على زميله الذي ابتسم له الزمان فسار إلى غايته، ولكن حقداً على الزمن الذي كاد له فرده خلف الصفوف. . .