(وصلنا عدد (الرسالة) المائة والسادس والعشرون، وقد انتهينا إلى جزء هذه المقالة الأخير، وكم كانت دهشة المفاجأة إذ فضضت غلاف الرسالة ووجدت بين بحوثها مقال الأستاذ الكبير أحمد أمين (أمس وغداً). وكانت بادرة الفكر التي تلت دهشة المفاجأة أن أهمل الموضوع وأوفر على نفسي عناء المراجعة والتنقيح. ولكنني عدت وقلت قد أكون طرقت الموضوع من ناحية غير التي طرقها الأستاذ، وقد أكون على خلاف معه في الرأي أو بعضه. وقرأت المقال فوجدت أننا نسير والأستاذ بعض الطريق ونفترق في بعضه الآخر. ومن أجل هذا الافتراق أبعث بمقالي هذا إلى (الرسالة) العزيزة).
تمرُّ بزمرة من الشيوخ خلوا إلى أنفسهم وأرسلوا أحاديثهم إرسالاً لا تحده موضوعية البحث الجدي، ولا اندفاع العاطفة المثارة، ولا عصبية الجدل؛ فتكاد لا تحسُّ في حديثهم إلا اللهفة العميقة، والالتياع الشديد على الزمن الفائت، حيث اللذة لا يكدرها ألم، والصفو لا يرنَّقه كدر، وحيث النعيم أبداً مقيم، والمنى أبداً حُفَّل دانية! وينبثُّ إليك من صدق اللهجة واجتماع الرأي وخلوص النية في حديثهم ما يوحي بأن أعصر السعادة المطلقة قد تلكأت عند شبابهم، وترخَّصت فقط لماضيهم، فأقامت ثمِّ لا تبرح ولا تريم؛ لهذا أقحل الحاضر، وعقم المستقبل، وغادر الناس طيب العيش وبشاشة الأمل!
تسمع هذا وخلافه مما تفيض به بقايا العمر وأعقاب السنين من الشيخوخة، فتتدسَّس إليك الحسرة ويغمرك الألم إن تأخر بك الزمن، ولم يحشرك في زمرة الشيوخ هذه، ويجعلك في حشدهم، فيكون لك من السعادة مثل ما يتحدثون ويصفون.
وتقودك رجلاك من حيث أنت إلى زمرٍ أخرى وأفراد آخرين، بعضهم ما يزال - في رأي نفسه - يستعدُّ لخوض معركة الحياة، وبعضهم الآخر - كذلك في رأي نفسه - قد أعدَّ لها العدَّة، وهيأ السلاح، فهو الآن يخوض غمارها ليصطلي بنارها، أو يستاف العطر الذكي عن أزهارها.
وتقف تتسمع، فما يروعك من هذه الزمر مثلُ انشغالها بمستقبلها عن حاضرها، وغفلتها عما في اليد إلى ما يمنيها به الغد، كأن حياة اليوم ليست في العمر ولا في تقدير الزمن،