كلما فكرت في أمر الموت ازددت حيرة، وكنت أظن أن إطالة الفكرة فيه رياضة حسنة عليه. وأن ذلك جدير بأن يصغر الدنيا في عيني، ويجعلني بالحياة أقل احتفالا، فإذا الأمر على خلاف ذلك، والحال على نقيضه. وما أظن بغيري إلا أنه مثلي، وقد أقول لنفسي حين أخلو بها - وقلما أفعل هذا الآن - ٍ إن كون المرء يحيا ليموت ليس بالغاية أو النهاية التي يسكن إليها الحي ويطيب بها نفسها، وما أشبه ما يفعل بنا هذا القدر الجاري علينا بما نصنعه نحن بخراف العيد - نسمنها لنذبحها آخر الأمر، وفرق ما بيننا وبين الخراف أن هذه تزداد لحماً وشحما وأنا نزداد علماً وفهماً؛ ولا أدري من الذي قال إن الحياة مدرسة، ولكن الذي أدريه أنها أعجب المدارس وأخفاها - ولا أقول أقلها - حكمة، ذلك أن التعلم فيها يستمر إلى نهاية العمر، ولا سبيل إلى اختصار الأمر أو الاجتزاء ببعض العلم عن بعضه، لانتفاء الإرادة الشخصية، ولأن المدرسة هي الدنيا كلها، فلا خروج منها إلا بالخروج من عالم الأحياء، والعالم والجاهل سيان، واللبيب كالغبي، والساعي في وزن القاعد، والمصير واحد، والمآل لا يختلف، وكل من في هذه المدرسة العجيبة يتلقى علومه الخاصة التي لا تشبه دروس غيره، ولا ترى أحداً يسأله هل حذق الدرس أم أهمله ونسيه؟ وكل واحد عالم وجاهل في آن معاً، يعرف ما أتيح له أن يعرف، ويجهل ما عدا ذلك أجمعه. وقل أن ينتفع أحد بما تعلم في حياته لأنه يدفن معه في قبره، ويلف عليه وعلى تجاربه ومعارفه كفن واحد. وكم تساءلت - وأنا أتدبر هذا كله - عن الحكمة في تضييع ما أفاد الإنسان في حياته من العلم والخبرة؟؟ ذلك أن كل ما حصل في حياته يموت معه، ولا سبيل إلى استنقاذ التجاريب والمعارف والانتفاع بها بعد أن يقضي صاحبها نحبه ويستوفي أجله. فهل هذه يا ترى خسارة تصيب الإنسانية كلما مات منها فرد، أم لا خسارة هناك عليها ولا ضير؟؟ من يدري؟
وسهل أن يفهم المرء أن يخلق ليحيا، ولكن العسير أن تجعله يفهم أنه يخلق للممات. فلماذا يكون هذا هكذا؟ وإذا صح أن الحياة مدرسة، أفلا يكون الأصدقاء والأشبه بالواقع أن نقول