للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تذييل للحاشية]

للأستاذ عباس محمود العقاد

الشاطئ قليل الزوار، مقفر أو وشيك الإقفار، وقد ظهرت الكروش في الحمامات، فكان ذلك علامة من علامات (التقويم) الذي اصطلح عليه رواد الشواطئ ومراقبوها، فلا تظهر النساء ذوات الكروش في الحمامات المشهورة إلا كان ذلك دليلاً على إقبال الخريف وانقضاء الصيف. إذ كان الزحام مغرياً بالتنافس في محاسن الأجسام، فإذا قل الزحام قل التنافس واجترأت على الظهور، من لم تكن قبل ذلك تجترئ على العبور

وقضى الله ألا يكون شيء من الأشياء نافعاً كل النفع ولا ضاراً كل الضرر. فمن محاسن الشاطئ الذي كثرت أضراره في رأي الوعاظ والمرشدين أنه يهدي إلى حاسة الجمال ويبثها في سليقة النساء والرجال. وهذا غرض كان الأقدمون يتوخونه بالرياضة، وكان الإسبرطيون يبلغونه بإقامة المواسم التي يتبارى فيها الفتيان والفتيات في مرانة الأعضاء ومرونة الأوصال. ولا ينحصر النفع بعد ذلك في تحسين الجسد أو تحسين الذوق أو تحسين الحركات، بل٨ يسري إلى الأذهان والأخلاق والأعمال والمعاملات، فإن الذي تعود ملاحظة الجمال في تركيب الجسم وتوجيه حركاته خليق أن يتعود مثل ذلك في فهم الأمور وتقدير المناقب والصفات، ثم يقل اشتهاؤه للجسد من ناحية الغريزة الحيوانية، لأنه لا يستطيع أن يشتهي كل ما يراه، ولأنه يألف ما يراه ساعة بعد ساعة ويوماً بعد يوم فينظر إليه نظرته إلى الصور والتماثيل، ويعرضه على مقاييس الفهم والتمييز، ولا يعرضه على مقاييس الشهوات واللذات

فالحسناء التي تبدو على الشاطئ عارية أو شبه عارية لا تثير من غريزة الناظر بعض ما تثيره وهي لابسة جلباب النوم في شرفة الدار، فإذا كان ما يراه مائة حسناء - ولم يكن فرد واحدة - فليس في وسع غريزته أن تنطلق في جماع شهواته ونزواته، ولا بد له من الإخلاد إلى التأمل والاكتفاء بالنقد والتمييز والتطبع بهذا الطبع والإعراض عن حكم الغريزة وحده في النظر إلى الأجسام

وعلى الشاطئ يعرف الناظر معنى الاصطلاح في قوانين الاجتماع، ويعرف أن مسألة الملابس أكثر ما تكون مسألة اصطلاح وعادة وتواضع بين الأمم كل أمة بما درجت عليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>