للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[النبوة - الوحي - المعجزة]

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

نعم! إن المعجزة الحسية لا علاقة لها بالإقناع عند أكثر من لم يقتنع بالحجج الفكرية، وأغلب ظني أنها ما أجريت للإقناع، بل لتعجيز المكابرين وأخذ طرق الإنكار عليهم، حتى لا يفلتوا إلى عذر بعدها، وحتى يحملوا حملاً على الإيمان. ولذلك كانت هي الدور الأخير من حجج الرسل بعد أن تعيبهم لجاجة الناس. فموسى مثلاً كما حكى القرآن: دعا فرعون للإيمان بالله عن طريق العقل في أول الأمر، فلما كذبه وهدده بالسجن. قال: (أولو جئتك بشيء مبين) وألقى عصاه. . . إلى آخر القصة. وكذلك سلك كل رسول من أصحاب المعجزات. فهي كانت آخر سهم في كنانة الرسول أمام المتعنتين. ولم تكن ذات أثر كبير في حمل بقية الناس على الإيمان كما حكى القرآن. قال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً). . . والجملة الأخيرة من الآية تدل على أن المعجزة لم يكن ورودها للإقناع، فهي إنما أجريت لإتمام الحجة وابتذال كل شيء، حتى قوانين الفطرة في سبيل غاية الحياة العظمى - وهي الإيمان - فالذي لا يقنع عن طريق التفكير والمحاكمة العقلية - بقضية من قضايا الحق - لا يقنعه أن تقلب له العصا حية، أو الصخرة ناقة؛ وإنما هو سيتعجب فقط من فعلك، ويبقى في نفسه الإنكار للقضية التي سقت دليلك الحسي من أجلها.

ولذلك جعل الله الرسالة الأخيرة معتمدة على حجة عقلية دائمة - هي القرآن - الذي هو الرسالة، وهو المعجزة المثبتة لتلك الرسالة. . . وهذا أمر ذو قيمة كبرى تفرد به الإسلام!

وقد أراد مشركو مكة أن ينهجوا مع رسول الله (ص) طريقة من قبلهم من الأمم في طلب الآيات الحسية؛ فأبى عليهم القرآن ذلك، وقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم). . . (كذلك قال الذين لا يعلمون - مثل قولهم - تشابهت قلوبهم: قد بينا الآيات لقوم يوقنون، إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً). . . (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا. بل نحن قوم مسحورون). . . (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)

<<  <  ج:
ص:  >  >>