هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، الأديب الألمعي، والخطيب المفوه، نادرة عصره، وأعجوبة دهره. ولد أبوه ببلدة الطيبة بمديرية الشرقية في شهر ذي الحجة سنة ١٢٣٤هـ ثم انتقل إلى ثغر الإسكندرية، فكان في مبتدأ أمره نجاراً للسفن بدار الصناعة، ثم اتخذ له مخبزاً لصنع الخبز، ومات بالقاهرة في ٤ رجب سنة ١٣١٠. وولد المترجم بالثغر المذكور في عاشر ذي الحجة سنة ١٢٦١ ونشأ في قلة من العيش، ومالت نفسه إلى الأدب، فاشتغل به واسترشد من أهله وطالع كتبه، وحضر دروس الشيوخ بمسجد الشيخ إبراهيم باشا، وكان قليل الاعتناء بالطلب، غير مواظب على الدرس، إلا أن الله وهبه ملكة عجيبة وذكاء مفرطاً، فبرع في الفنون الأدبية، وكتب وترسل، ونظم الشعر والزجل، وطارح الإخوان وناظر الأقران. ثم بدا له أن يتعلم صناعة للكسب، فتعلم فن الإشارات البرقية، واستخدم في مكتب البرق ببنها العسل، ثم نقل إلى مكتب القصر العالي، سكن والدة الخديو أيام ولاية ابنها إسماعيل باشا، وبقى به مدة عرف فيها كثيراً من أدباء القاهرة وشعرائها، مثل الأمير محمود سامي باشا البارودي، ومحمود أفندي صفوت الساعاتي، والشيخ احمد وهبي. ثم غضب عليه خليل أغا، أغا القصر، وكان في سطوة لم يبلغها كافور الأخشيدي، فأمر بضربه وفصله. فضاقت به الحيل ورقت حاله، حتى توصل إلى الشيخ أبي سعدة عمدة بداوي بمديرية الدقهلية، وأقام عند يقرئ أولاده، ثم تشاحنا وافترقا على بغضاء. واتصل بالسيد محمود الغرقاوي، أحد أعيان التجار بالمنصورة فأحسن منزله، وفتح له حانوتاً لبيع المناديل وما أشبهها. فكانت نهاية أمره أن بدد المكسب ورأس المال، وجعل يجوب البلاد وافداً على أكابرها، فيكرمون وفادته ويهشون لمقدمه، لما رزقه من طلاقة اللسان، وخفة الروح، وسرعة الخاطر في النظم والنثر، فيطوف ما يطوف ثم يأوي إلى دار الغرقاوي بالمنصورة، إلى أن ورد طندتا سنة ١٢٩٣، واتصل بشاهين باشا كنج مفتش الوجه البحري إذ ذاك، ولاتصاله به سبب لا بأس من ذكره: وهو أن الباشا المذكور كان بينه وبين الشيخ محمد الجندي أحد العلماء بالمسجد الأحمدي صحبة وتزاور، وكان الشيخ يحب الغناء ويطرب له، ولذلك كان يستحضر فتى حلاقاً حسن الصوت ليغني له في داره، فأمر مرة أن يغني بحضرة الباشا، فغنى بقول المترجم:
سلوه عن الأرواح فهي ملاعبه ... وكفوا إذا سل المهند حاجبه