والمسألة الثانية هي (الثقافة الإسلامية) وأثرها في المدنية
وأريد أن أكرر هنا ما أشرت إليه من أن الثقافة الإسلامية كانت أثراً من آثار العقيدة الإسلامية التي ألممت بها. فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام، وعبادة أصنام، وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته، واختلاف مظاهره، ودوام حركاته، وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة، فالناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد هو آدم وحواء، والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء، والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت). فهذه الوحدة في العالم تحمل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي. فالقرآن من ناحية فك قيود العقل، وهذا هو العامل السلبي؛ ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال، وهذا هو العامل الإيجابي
من أجل هذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية لا نتيجة شيء آخر، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والهندية، فلأن الدين حملها على ذلك وطلب منها أن تتطلب العلم حيث كان ومن أي كائن كان
وقد بذر الإسلام في نفوس أصحابه بذوراً تأصلت فيهم فكانوا إذا اقتبسوا من الفلسفة اليونانية أو أية ثقافة أخرى لم يكونوا مقلدين تقليداً صرفاً، إنما كانوا دائماً يُعملون العقل فيما نقلوا، ويعملون العقيدة الدينية فيما قرءوا. فإذا نظرنا إلى ما كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد رأيناهم لم يقفوا موقف التلميذ فحسب، بل نقدوا وزادوا ووفقوا بين الفلسفة والدين وأمدوا كل شيء وأخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص وشارة تعرف بها - حتى هذا المنطق اليوناني الذي دانت له كل الأمم زاد الغزالي في بعض كتبه فصولاً عن القرآن؛ وابن تيمية وابن حزم وغيرهما نقدوا منطق اليونان وعدوه منطق شكل لا منطق مادة. وكان شأنهم في كل فرعٍ هذا الشأن تقريباً. فدعوى أن المسلمين في ثقافتهم