جلس عبد الملك بن أبان بن أبي حمزة إلى ولده محمد يحدثه عن تجارة الزيت، ويروي له من تجاربه ويصف له مشاهده الممتعة في رحلاته التي كانت تنتهي بذكائه وصبره وجرأته إلى التوفيق، إذ كان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فيثرى من وراء ذلك ثراء عظيما، ويعد لما جمعه من المال في تجارة الزيت من مياسير الكرخ، وينصحه في لهجة العاطف الحاني أن يحذو حذوه، ويسلك مسلكه، فيتعلق بالتجارة ويتشاغل بها؛ ولكن الفتى وقد سمت به همته، وطمح إلى ما لا يطمح إليه السوقي الذي تشغله التجارة وملازمتها عن قصد المعالي - يأبى أن يصغي إلى حديث أبيه إلا بمقدار أن يسمعه، فيجيب عنه بإباء يؤكده أنه لا يشتغل إلا بالأدب وإلا بما هو من وسائل الأدب، لأنه يحس من نفسه بدوافع تدفعه إلى ما لا يرمقه إلا كل ذي همة وثابة، ونفس تطمح إلى العلا.
وهاهم أولاء لداته يشهدون له بكفايته في العلم والأدب، ويثنون على ذكائه وقوة إدراكه وسرعة بديهته، ومقدرته على حل ما يشكل عليهم من مسائل العلوم لا في النحو واللغة فحسب، بل فيهما وفي غيرهما من سائر العلوم. وهذا أبو عثمان المازني وقد عرفه لما قدم بغداد في أيام المعتصم يقول لأصحابه وجلسائه، إذا خاضوا بين يديه في علم النحو فاختلفوا فيما يقع فيه الشك - ابعثوا إلى هذا الفتى الكاتب، يعني محمد بن عبد الملك الزيات، فاسألوه واعرفوا جوابه فيفعلون، ويصدر جوابه بالذي يرتضيه أبو عثمان ويوقفهم عليه. فهذه الثقة من أترابه وغيرهم من أبناء عصره، تدفعه في قوة أن يخالف أباه عبد الملك ويراغمه، فيلزم الأدب ويطلبه ويخاطب الكتاب، ويلازم الدواوين، ويجيب أباه في قوة الواثق المطمئن - وقد قال له ذات يوم: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك، وليضرنك، لأنك تدع عاجل المنفعة، وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه. فيجيبه: والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت؟ ثم يشخص بعد قليل إلى الحسن بن سهل وزير المأمون، فيمدحه بقصيدة أولها:
كأنها تثّني خطوها ... أخنس موشي الشوى يرعى القلل
فيعطيه الحسن عشرة آلاف درهم، فيعود إلى أبيه فائزاً منتصراً، فيبتسم أبوه في رضا،