هاتان عبرتان من عبر التاريخ - وكم فيه من عبر - نسوقها إلى زعماء العرب وشعوبهما، في هذه الأزمة الخانقة والآونة الحاسمة التي يمرون بها أو تمر بهمز ولعل فيهما متعظاً ومعتبراً.
في كل عبرة منهما نزل خطب، وألمت شدة، وحزبت ضائقة ووقف عدو لدود بالمرصاد.
أما في الأولى فقد التأمت الصفوف وتنادت الأصوات وتصافت النفوس ولمت الأيدي واجتمع الهوى، حتى أصبح المسلمون - أو بعضهم - جبهة واحدة، فردوا العدوان ودفعوا الطغيان وكانت عاقبتهم نصراً مؤزراً وغلباً مظفراً.
أما في الثانية فقد تغيرت القلوب وانتثر الشمل وتفرقت الأيدي، وأضمر الغدر، وحيكت الخيانة، فكانت العاقبة خساراً ودماراً، وشقوة وبواراً.
هما موقفان من مواقف الأمة المصرية وقادتها، كان أولهما في مطالع العصر المملوكي، وكان ثانيهما في أخرياته. يتمثل في الأولى مزايا الإقدام والشجاعة، وعواقب الحزم والعزم، وفوائد الوحدة والتعاون، بما يحق الحق ويصون الكرامة، ويبقي العزة ويؤثل المجد، ويضفي المهابة. ويتمثل في الثاني مثالب الخور والجبن، وعواقب التردد والضعف، وغرم التفرق والخلف. بما يهدر الحق ويشيع الذل ويمكن للفساد، ويصوح به نبت الحياة.
أقبل عام ٦٥٦هـ يحمل في جعابه للأمم الإسلامية سهاماً مريشة، وعلى مناكبه رماحاً مشرعة، تنذر بالويل والثبور، والهلاك والدثور. فهاهم أولاء التتار قد نسلوا من أواسط آسيا بعد أن خربوا الديار وأباحوا الدمار، بقلوب فاجرة، وأفواه فاغرة وحب السفك تغلى به دماؤهم، وتضطرب أعضاؤهم، وقد هيئوا العدة، وجمعوا الكيد، فتجهم بهم وجه الأفق، وارمدت بهم صفحة السماء، وأكفهر جو القدر وأرجف المسلمون في كل مصر أن حدثاً جللاً سيقع. فتدافعت سيول التتار إلى بغداد والعراق، بعد أن خلفوا وراءهم أمماً باكية وشعوباً ممزقة وعروشاً مثلولة فأتموا ببغداد فصول روايتهم، وأزالوا من سمائها شمس الخلافة العباسية، واتخذوا في أهلها ما شاء لهم العوام والشراسة وحب السفك والفتك.