ليس من خصائص الإنسان أن يعرف الجمال الطبيعي ويحبه فحسب،
بل خلق مزوداً بالقدرة على إنتاجه أيضاً. فحين يرى جمالاً طبيعياً،
سواء أكان جمالاً فيزيقيا أم خلقيا، فإنه يحسه ويعجب به ويتأثر به،
فينجذب نحوه، وتتملكه عاطفة الجمال وتسيطر عليه. فإذا كانت تلك
العاطفة فعالة مثيرة ونشيطة، فإننا نميل إلى رؤية ما سبب لنا تلك اللذة
وإلى إحساسه ثانية، ونرغب في تحقيقه وإحيائه، لا كما هو عليه في
الخارج، بل كما تصوره لنا مخيلتنا، حتى تظهر فيه ذاتية خاصة،
وهذا هو الفن
فالفن إذن إنتاج حر للجمال، يصدر عن قوة كامنة في الإنسان هي ما نسميه العبقرية ويلزم لذلك الإنتاج الحر للجمال قُوى، هي نفس القوى اللازمة لمعرفته وإحساسه. فالعبقرية هي الذوق السامي، مضافاً إليه عنصر آخر هو القدرة على الإبداع. والذوق ملكة مركبة يدخل فيها ثلاث قوى، هي المخيلة والعاطفة والعقل. هذه القوى الثلاث لازمة بالضرورة للعبقرية، ولكنها ليست كافية، فإن الذي يميز العبقرية عن الذوق، إنما هو القدرة الخالقة، أو القدرة على الابتداع والابتكار. فالذوق يحس ويحكم ويناقش ويحلل ولكنه لا يبتكر، والعبقرية مبدعة وخالقة قبل كل شيء. والعبقري إنما يكون عبقرياً بواسطة رغبة مشبوبة لا يمكن مقاومتها للتعبير عما يحس به من عواطف وانفعالات وصور وأفكار تضطرم في صدره. وقد قيل: إنه لا يوجد رجل عظيم بدون بذرة من الحماقة فيه، هذه الحماقة هي الجزء الإلهي من العقل، وهذه القوة الخفية سَّماها (سقراط): (شيطانة)؛ وأسماها (فولتير): (بالشيطان في الجسد)، وهي التي تلهم العبقرية وتثيرها حتى تبوح بما أضناها. وعلى ذلك، فهناك شيئان يميزان العبقرية: حيوية الرغبة في الإنتاج، ثم القدرة على الإنتاج، لأن الرغبة بدون القدرة ليست إلا مرضاً.
فالعبقرية بالضرورة هي على العمل والإبداع والخلق، بينما يختص الذوق بالملاحظة والإعجاب. والعبقرية الزائفة - أعني المخيلة المشبوبة العاجزة معاً - تضني في الأحلام