للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البريد الأدبي]

معروف الأرناؤوط في حمى الرافدين:

استردّت السماء إليها في الأسبوع الخالي إحدى ودائعها العزيزة عند الأرض، حين وافى الأجل فقيدنا الغالي معروف الأرناؤوط. .

والأرض والسماء تتبادلان ودائعهما في غير انقطاع؛ ولكن فرحة الإنسانية باستقبال إحدى هذه الودائع قلما تعادل نكبتها بالخروج عنها وتشييعها إلى مستقرها.

وأبناء الحياة يودعون كل يوم أو كل ساعة راحلاً منهم إلى العالم الآخر، ويأسى منهم من يأسى، حيناً من الدهر، ثم ترقأ الدموع، وتندمل الجراح، ويمر النسيان بكفه على الأثر، فيمحي كل شئ إلى الأبد.

ولكن الوقت يخترم منهم بين الفينة والأخرى واحداً بعينه، فإذا صوتُ النائح يعلو على الأصوات كلها، وإذا سحابة الحزن تخيم على الرؤوس جميعها، ثم إذا الجرح أعمق من أن تأسوه الأيام، والأثر أبلغ من أن يغطي عليه النسيان. .

لقد نعى إلينا الناعي معروفاً في ساعة مبكرة من يوم الجمعة الثلاثين من شهر يناير ١٩٤٨، فعقدت المفاجأة ألسنتنا، وبلبلت أفكارنا، وأثارت لواعجنا، وأطلقت شؤوننا؛ ولم نكد نثوب إلى أنفسنا حتى عرفنا أية خسارة فادحة خسرتها الأمة العربية بفقده، وأي رفد عظيم حرمته العربية بحرمانها منه.

وسار الموكب الرهيب بجثمان الفقيد، بعد ظهر السبت، ومشى خلفه نائب صاحب الفخامة رئيس الجمهورية، وفئة من الوزراء وأصحاب المناصب العليا، وجمهور غفير من حاصة أهل الفضل والعلماء والأدباء الذين تداعوا إلى العاصمة من لبنان والعراق، وجيش لجب من رجال التربية والثقافة وعامة الناس. سار الموكب الرهيب خاشعاً موقراً حتى إذ لمع الراحل مأمنه، انقلب الناس راجعين، وفي كل عين دمعة، وعلى كل شفة خلجة، وبين كل نفس ونفس معنى يصوغ الأحزان ويهيج الخواطر الباكية!.

والآن، لقد تجاوز معروف الأرناؤوط هذا الأفق الأرضي، وانبتت صلة المادة بينه وبين أبنائه، وانصرف عن هذا التهافت العاجز، وابتعد عن هذا الضجيج العابث، الذي نفرغ جهدنا - نحن - فيه. وعرجت روحه إلى أولمب الخالدين، وانضم إلى زمرة أرباب الفن،

<<  <  ج:
ص:  >  >>