للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع]

لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- ٣ -

مطابقة المرافعة لمقتضى الحال

إن أهمها بلا شك هو مطابقتها لمقتضى الحال. فللإسهاب منها مواضع وللإيجاز مواضع. يجب استعمال اللفظ المجلجل مرة والسهل البسيط أخرى. يغلب المنطق هنا والعاطفة هناك حسب الظروف والأحوال.

وليس يستطيع هذا إلا المتكلم المصقع المتصل بالأدب بأوثق صلة، العالم بطبائع الناس العارف لمواقع الكلام، المتصرف في أنواعه المختلفة بما يريد ويشتهي.

كفايات صعبة بل شك، ولكنها لازمة أدرك الأقدمون ضرورة توفرها فيمن اتخذ الكلام صناعة. فكان محامو اليونان أفصح أهل زمانهم وأعلمهم. وسار الرومان في أثرهم فلم يكن لطلاب البلاغة في عهدهم غير ساحة القضاء يقصدونها للأخذ عن أئمتها وحاملي لوائها من المترافعين المبرزين أمثال أنطونيوس وهورتنسنس وشيشرون. ثم تجددت هذه الحال في عصر النهضة فكان على طالب المحاماة بعد الفراغ من دراسة الحقوق أن يتنسك أربع سنوات يقضيها متأملاً باحثاً قبل أن يقدم على المهمة المقدسة الكبرى - مهمة الدفاع.

وقد بلغ من إغراق الأسرة القضائية في ذلك العهد في التأدب أن أصبحت المرافعات والأحكام عبارة عن اقتباسات مكدسة من كتب اليونان والرومان تلوح بينها الألفاظ الفرنسية وتختفي.

بل إنك لتقرأ في أخبار ذلك الزمن أن باسكييه أشهر محامي القرن السادس عشر أورد في إحدى مذكراته بيتاً لاتينياً لم يشر إلى قائله ووقعت المذكرة في يد دىنو قاضي القضاة فلم يشأ أن يحكم في الدعوى حتى يعرف مصدر الشعر.

وبقي الاتصال وثيقاً بين الأدب والقانون خلال القرن السابع عشر والذي يليه. فأصبح من تقاليد المجمع اللغوي تخصيص أحد كراسيه لأبرع المحامين أدباً. وكان يشغل هذا الكرسي

<<  <  ج:
ص:  >  >>