كلما ثار الجدل في مصر حور تقدير الفن وإطلاق حريته أو تقييدها بقيود صالح الجماعة والمحافظة على دعائم حياتها، استحضرت في نفسي صوراً من الطبيعة ومن حياة الأمم التي تمثل النزعتين لأجد القول الفصل الذي يقرب نفسي من الصواب؛ فإني أرتاح دائماً إلى أحاديث الطبيعة الأستاذة، وإلى أحكام الحياة الصادقة الناجحة، وأتخذهما أساسين لصحة الأفكار والأعمال غير عابئ بعد ذلك بما يرسله المنطق اللفظي والجدل النظري
وأنا الآن بسبيل تحكيم هذين الأساسين في القضية التي أثارها الأستاذ الكبير أحمد أمين بك، وجادلها وعلق عليها الكاتب الفنان توفيق الحكيم، هي: الفن للفن؟ أم الفن للحياة؟
فأما الطبيعة توهي أستاذتنا التي أورثتنا عقولنا وعلومنا وفنوننا وتجاربنا، وعرضت لنا نفسها عرضاً مكشوفاً لنراها ونعرف أسرار علم بارئها وفنانها الأعظم. . . فقد أرشدتنا - لو كنا نسترشد بها - إلى أن الفن فيها إنما هو وسيلة للنفع والمصلحة لا للترف ولا لإطلاق عبقرية الخلق والتجسيم والتكشيل والتلوين على هوى طليق غير منسجم مع الاتجاه العام في الطبيعة كلها
وقد أرشدتنا كذلك إلى النسبة التي يجب أن يكون الفن بها في الحياة وإلى ترتيب وجوده وظهوره في كائناتها. والذي لا شك فيه أن في كل شئ في الطبيعة عملاً ضرورياً وعملاً فنياً. والعمل الضروري هو الذي يضمن حسن إخراجه، ولفت الأنظار إليه وحمل الأحياء على الانتفاع به والمحافظة على استمرار نوعه وحمايته. ومن وراء ذلك الظاهر الفني نظرة علمية دقيقة مدركة لغاياتها ووسائلها جادة مقتصدة غيرها هازلة ولا مسرفة فوجود (الكيان) المادي (وتجسيمه) وإقامة (هياكله) الضرورية وتهيئة أسباب نفعه واستمرار وجوده هي محاور العمل الطبيعي الدائم في عالم الجماد والنبات والحيوان، وهي الجهد المبذول في دؤوب واستمرار في جميع الفصول والمواسم، ثم يأتي بعد ذلك دور التجميل والإخراج
فالجذور في النبات مثلاً لا جمال فيها ولا زينة وإنما هي عاشقة للظلمات والعفونات،