جلست ذات أمسية إلى المذياع أتنقل فيه بسمعي المرهف بين برلين وباري ولندن وموسكو وطوكيو وباريس وأنقرة، وكلها تذيع باللغة العربية، وتوجه الكلام إلى الأمة العربية. فقلت في نفسي: سبحان الله! ما هذه العناية اليقظة بنا، والاهتمام البالغ بلغتنا وأدبنا، كأننا لا نزال نملك زمام الدنيا ونصرف عنان القدر! ثم أعلن المذيعون أنباء الحرب في ميادينها المختلفة، فإذا هم يذكرون: أفريقية الشمالية، ومصر، وفلسطين، وسورية، والعراق، وإيران، والهند، والصين، والملايو، وسنغافورة، وجزر الهند الشرقية؛ وكلها مواطن الأمم الإسلامية، ومسارح الثقافة العربية؛ وليس من أهلها المغير ولا المدافع؛ وإنما هم كثروة الأرض وعروض التجارة خسارة للمغلوب وربح للغالب. فعدت أقول لنفسي: ما أشبهَ تلك الإذاعات اللينة العطوف بالرُّقَى الساحرة، يسلطها المفترس على أعصاب الفريسة لِتخدَر وتنام، فلا تنشب في حلقه ولا تضطرب في جوفه! وما أعجب ألا تشب الحرب الاستعمارية، وتتصارع الدول القوية، إلا حيث يملك العرب ويعيش المسلمون، كأنما أصبحوا سلباً لكل غازٍ ونهباً لكل غاصب!
ألم يكن هؤلاء الناس أعقاب أولئك الفاتحين الذين نزل على حكمهم الدهر ودخل في ملكهم العالم بضعة قرون؟
أليس هذا الإسلام الذين يؤمنون به اليوم هو إسلام ذلك الخليفة العباسي الذي نظر ذات يوم إلى السحائب الجُون تزجيها الرياح الرُّعن إلى أقاصي الأرض، فقال في لهجة تنم على العزة والجلالة والشكر:(أمطري يا سحائب حيث شئت فإن خراجك لي)!
بلى، هؤلاء أعقاب أولئك، ولكن الدين الذي يعتقدونه لم يعد دين ذلك الخليفة؛ إنما هو بقية من الإسلام الأول حالت ثم آلت إلى صوفية بلهاء لا يفيق الممسوسُ بها من الغفلة، ولا ينشط من الخمود، ولا يبالي أن يبلغ ساحل الحياة مركوباً على ظهره أو مسحوباً على وجهه! والدين والعلم مآلهما في النفوس الضعيفة والعقول الخفيفة إلى الترهات والأباطيل: فأيلولة الكيمياء إلى البحث عن حجر الفلاسفة، وعلم الفلك إلى التنجيم والسحر، كأيلولة الإسلام إلى هذه العقيدة الملفقة التي زيف فيها الإيمان بالقدر حتى أهمل الناس التوقي