وبعد أن قضى من الشام حاجته عاد إلى مصر سنة سبع، فاستوطن القاهرة، وانقطع فيها لتصنيف الرسائل والكتب، وتعليق الشروح، والجلوس للطلاب. وقد ألقيت إليه رياسة الشافعية، فجعلت الأسئلة والاستفتاءات ترد عليه من أنحاء الشرق العربي كثيرة متلاحقة، وهو يجيب عليها ويفتي فيها. وكان من عادته - كما ذكر ابنه تاج الدين - أن يشرك في بحثها ومناقشتها أبناءه وتلاميذه، إلا أن تكون متعلقة بأحوال المتصوفة وأهل الباطن فيكتم أمرها وأسماء أصحابها وما يراه فيها. إذا كان ذلك خارجا عن حدود النظر العقلي والاستدلال المنطقي
وقد لبث على ذلك - منذ عودته من السماع بالشام إلى رجوعه إليها قاضي قضاتها - أثنين وعشرين عاماً، حج في أثنائها ثم ذهب إلى المدينة لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سنة ٧١٦هـ
ولم يل تقي الدين في هذه الفترة عملاً يتصل بالسلطان، أو أمراً من أمور الدولة، على كفايته ومقدرته، فقد كانت تنقصه المرونة الخليقة التي تقضي بالتزلف والتودد، ثم بالمصانعة والمداهنة والإغماض في الحق أحيانا؛ ولهذا كانت مادة عيشه تافهة ضيقة مهددة بما تقضي به شهوات الأمراء وغايات المزدلفين؛ فكل ما نعرف من هذا أنه تولى مشيخة جامع ابن طولون فترة من الزمن، وكان يأتيه منها رزق زهيد مما وقفه عليه الملك المنصور حسام الدين لاجين (٦٩٦ - ٦٩٨هـ ١٢٩٦ - ١٢٩٨م) ولكن هذه المشيخة لم تلبث أن طارت من يده وأخذت منه سنة ٧١٩ (١٣١٩م). وله في هذا المقام شعر نورد شيئا منه، لأنه - مع ركاكته - يدل على روحه العلمية الخالصة التي تضع العلم فوق كل اعتبار:
كمال الفتى بالعلم لا بالمناصب ... ورتبة أهل العلم أسنى المراتب