لعل الشعر العراقي الإسلامي أصدق ما يصور حياة البادية، وأصح ما يعبر عن نفسية العرب؛ فانه - وإن كان كما قلنا استمراراً للشعر الجاهلي يصدر عن دوافعه، وينبع من منابعه - أنقى جملة وأبين علة وأصح نسبة، لقربه من عصر التدوين واتصاله بأسباب السياسة وأحداث التاريخ. وهو مظهر لتلك الحياة المدنية الأولية التي هيأها الإسلام للعرب لأول مرة، فجعل من الأشتات وحدة ظاهرها الجماعة والألفة، وباطنها العداوة والفرقة؛ فهو مهاجاة بين الأفراد، ومساجلة بين الأحزاب، ومفاخرة بين القبائل، ومدح للزعماء والخلفاء؛ وهذه الموضوعات بطبيعتها تقتضي اللفظ الجزل والأسلوب الرصين والعروض الطويل والصور البدوية، وتعتمد في الهجاء على مثالب الآباء من جبن وبخل وقلة وذلة، وفي المدح والفخر على ذكر أيامهم الدامية الماضية وما ظفر فيها أسلافهم من الغلب والسلب. فالهجاء في هذا العهد بأنواعه الخاصة والعامة يكاد يكون مظهره العراق، لتكالب القبائل المتعادية عليه، وظهور المذاهب المتباينة فيه، وغلبة البداوة والأنفة والبطر على أهله. فشعراؤه يبتدئون به ويفتنون فيه ويعيشون عليه، وهو ينتحل الأسباب المختلفة، ويرتدي الأثواب المتعددة، فيكون فرديا وقبليا ووطنيا ودينيا وسياسيا، ولكنه في الواقع إنما يصدر من باعث واحد هو العصبية الموروثة والأحقاد القديمة
وقد ينبت المرعى على دِ مَن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
فقائل هذا البيت غياث بن غوث الأخطل صوت الجزيرة ولسان التغلبية وأديب النصرانية وشاعر الأموية. كان أول ما غرم به من شعر الهجاء، هجا امرأة أبيه وهو صغير، وهجا كعب بن جعيل شاعر تغلب، فأهمله وهو يافع، وعلق به لقب الأخطل منذ شب لسفاهته. ثم مضى يقرض الشعر فيما يشجر من الخصومة بينه وبين الناس، أو بين قبيلته وبين القبائل، حتى كان بين يزيد بن معاوية وهو ولي العهد وبين عبد الرحمن بن حسان الأنصاري تقاول وجدل، فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فتحرج أن يذم قوما آووا رسول الله ونصروه، وقال له: أدلك على الشاعر الفاجر الماهر (يريد الأخطل): فهجا