كان القرن الثامن عشر في أوربا عصر الخفاء والدعوات السرية، والثورات الفكرية والاجتماعية؛ وكان أيضاً عصر المغامرات الشائقة، والحياة المرسلة الناعمة، والعيش الخفض، وازدراء التبعات، عصر المرح والطرب الميسور
وليس معنى ذلك أن القرن الثامن عشر كان عصرا ذهبيا يزهو فيه المجتمع ويزدهر؛ فقد كان في الواقع عصر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوالية؛ ولكنه كان عصر تطور فكري عميق يبلغ المجتمع فيه ذروة أزمته الروحية والنفسية، ويصل إلى نوع من اليأس والاستهتار، ويلتمس في حياة النسيان والعيش المرح عزاء ومتنفسا
وقد تناولنا في مقال سابق شخصية من أعجب شخصيات هذا القرن وداعية من أغرب دعاته، ونعني يعقوب فرنك أو البارون فون أوفنباخ ورأينا كيف كان القرن الثامن عشر مهبط الدعاة والمغامرين من كل ضرب، وكيف كان الخفاء يغمرهم ويثير من حولهم كثيرا من الدهشة والروع، وكيف كان أولئك الدعاة المغامرون يخلبون ألباب مجتمعات هذا العصر برائع شخصياتهم ومظاهرهم، وظرف خلالهم وشمائلهم، وسحر مزاعمهم وأقوالهم، وخفاء غاياتهم ووسائلهم
والآن نتناول شخصية أخرى من أعجب شخصيات هذا القرن أيضا، ولكن من طراز آخر، هي شخصية جاكومو كازانوفا
كازانوفا! مغامر جريء يخلق لنفسه من العدم شخصية باهرة، ويدخل الحياة من باب ذهبي، ويستقبلها بابتسامة خالدة؛ ويفتتح المجتمع الرفيع بذكائه ودهائه وخبثه، وظرف خلاله وشمائله؛ ويرتفع في ميدان المغامرة إلى الذروة، ويهبط إلى الدرك الأسفل؛ ويستمرئ أمتع المسرات والملاذ، كما يتذوق أمر ضروب السقوط والفاقة؛ وينحدر من فتوة باهرة ظافرة برفاهة العيش الساطع المرح، إلى كهولة حافلة بصنوف الخيبة واليأس، ثم