للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

المتعاظمون

هذا الفريق من بني آدم أو هذا الصنف كثير شائع، ولكني أقصر الحديث هنا على بعض أصحاب السلطان منهم؛ ولسوء حظك أو لسوء حظي أنا - على أقرب الرأيين إلى الصحة - أن يرى هؤلاء في كثير من المجالس. ولست بحاجة إلى منظار، بل ولا إلى عينين - لا قدر الله - لنرى هؤلاء الناس، أو تحس سلطانهم إن صح عندهم أنهم ناس من الناس. . .

ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم وإن كانوا على رغم أنوفهم الشم ناساً يجري عليهم ما يجري على سائر الخلق لا يؤمنون إلا بأنهم فوق مستوى الناس، وعسير عليك أشد العسر أن تقنعهم من بعيد أو من قريب بأن لهم مثلك يدين ورجلين وحواس وما إليها من جوارح وأحشاء، وأنهم يأكلون كما تأكل، وإن لم يكن مما تأكل، وأنهم يشربون وينامون ويفرحون ويغضبون ويمرضون ويموتون كما يجري عليك من أحكام الطبيعة سواء بسواء.

هذا الفريق الذي أتحدث عنهم أصحاب السلطان من أصحاب الديوان. ولعلك لم تنس بعد أحاديثي عن أصحاب الديوان، وإن كنت وقفت بك عند صغارهم لا خوفاً من كبارهم علم الله. وما لي أقسم وهاأنذا أعرضهم عليك جملة وأحشرهم أمام المنظار في غير تهيب ولا رفق:

ترى الشخص منهم - وهو شخص رضى أو لم يرض - في ردهة من ردهات دور اللهو، أو في سيارة عامة، إن لم تكن له سيارة خاصة، أو في عرض الطريق، فتحييه تأدباً منك وعملاً بما يوجبه الذوق وتفرضه الإنسانية، فيدهشك أنه يبدو عليه كأنه لا يلقي منك تحية، بل تراه وكأنه يلقى منك إهانة؛ وإلا فما باله وقد كان منبسط الأسارير: يتجهم لك ويشمخ بأنفه ويرميك بنظرة كريهة كأنه يريد أن يخيفك في غير داع لذلك ولا مناسبة؛ ثم يرد تحيتك الحارة برفع سبابته قليلاً تجاه رأسه العالي، أو بإيماءة بسيطة، ويمضي وكأنه لم يكن يرد تحية، وإنما كان يرد على توسل سائل بإلقاء مليمين في كفه المبسوطة!. . .

ولقد تعجب لذلك، ولكن عجبك دليل بساطتك أو طيبة قلبك. . . والحق أني أريد أن أقول دليل (عبطك) فاقبلها مني ولا تدعني أموه فأتحايل على الألفاظ، ولخير لك على أي حال

<<  <  ج:
ص:  >  >>