إني لأحظ عنوان هذا الفصل وأنا أسخر من نفسي، إذ أحدث الناس حديث مقالاتي، والناس في شغل عني وعن مقالاتي بهذا الهول الهائل، والبلاء النازل، والغلاء الشامل، وبالله العوذ مما هو أشد وأعظم.
ولعمر القراء ما أكثر الحديث عن نفسي لا لزهو ولا لكبر ولا غرور؛ ولكنها صناعة الأدب يسوغ معها ما لا يسوغ مع غيرها. وإني (إذا أردت الجد) لمن أشد الأدباء زهادة في الأدب، وأخال أن الناس في أدبي لأزهد، ولولا كليمات أسمعهن أحياناً فيهن تعليق على ما أكتب أو ثناء عليه، أو رسائل في مثل ذلك قد يأتيني، أو فقرات قد أقرأها في صحيفة فيها تنويه بي، لولا ذلك (وما ذلك؟!) ما ظننت أن أحداً يقرأ مقالاتي!
وما قصدت هذا الموضوع قصداً، ولكني نبشت أوراقي أفتش عن ورقة أريدها، فخرج في يدي (عدد) من المقتبس قديم، تاريخه سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، ففتحته أنظر فيه، ففتحت لي دنيا من الذكريات اللذة، وقرأته فقرأت فيه تاريخ نفسي: رأيتني في الصفوف الأوائل من الثانوية، وحولي رفقة ما رأيت بعدهم مثلهم في إقبالهم على الدرس وجلدهم عليه، وفي رسوخ ملكاتهم الأدبية، وقوة طبعهم في الأدب وسليقتهم في اللغة، وتسابقهم إلى مطالعة نفائس المصنفات، ومعرفة المصادر والأمهات، ولم يكونوا كشباب اليوم الذين يحاولون الكتابة قبل القراءة، ويغتربون بالنشر فيحسبون أنهم أنداد وأقران لكل من يكتب في الصحيفة التي تنشر لهم، ويعلن أحدهم عن كتابه الذي سيصدره قبل أن يكتب منه عشر صفحات، وينتقد الكاتب الكبير وهو لا يحسن أن يقيم لسانه في قراءة مقالة من مقالاته، ويخدع المجلة عن أدبه فتظنه شيئاً فتخدع به القراء، وما لم أذكر من صفاتهم آلم وأنكى. . .
وكنت قد قرأت طائفة من الكتب أذكر أن منها (حياة الحيوان للدميري) وهو أول ما طالعت من الكتب، وهو دائرة معارف (كما يسمونها اليوم) أو هو معلم جامع فيه فقه ولغة وأدب وقصص وتاريخ وخرافات وعلم وحقائق أفدت منه كثيراً، (والصباحي لأحمد بن فارس) وقد ألقى في نفسي إجلال العربية والإيمان بسعتها وجلالها، وحبب إلى جزالة الأسلوب